"خراطة المفاتيح" فن عتيق سلبت بريقه "الماكينات" الحديثة

"خراطة المفاتيح" فن عتيق سلبت بريقه "الماكينات" الحديثة

يتأسى عبدالله الصمادي، احد اقدم صانعي المفاتيح في الزرقاء، على زمن كانت فيه المهنة فنا يتطلب مهارات خاصة لم تكن متاحة سوى لقلة يتوارثونها ابا عن جد، قبل ان تظهر "الماكينات" الحديثة لتجعلها مشاعا بمقدور اي شخص ممارستها.

في محله الذي هو عبارة عن "بيت درج" يقع في "دخلة" الشافعي المتفرعة من شارع الملك فيصل، يتحدث الصمادي البالغ من العمر 48 عاما، بكثير من الفخر عن مهنة "خراطة المفاتيح" التي تعلمها على يد ابيه منذ كان في الثانية عشرة من العمر.

وقال بينما ازاح نظارته ذات الاطار الاسود عن عينيه وثبتها على جبهته فوق الحاجبين مباشرة "هذه المهنة فن لا يدرس في المعاهد، والطريق اليه لا تكون الا بالوراثة، اي ان ياخذه الابناء عن الاباء وينقلونه بدورهم الى ابنائهم".

الصمادي امضى معظم سنوات حياته الاولى يعمل في محلة والده في حي الحسين، ثم استقل بمحله الحالي قبل 16 عاما، وحرص خلال ذلك على تمرير المهنة الى احد ابنائه الاربعة، والذي يدير الان محلا متخصصا بمفاتيح السيارات في شارع المصفاة.

في شبابه، درس "هندسة الالكترونيات" لكنه لم يعمل ضمن هذا الاختصاص، وفضل البقاء ملتصقا بمهنة نسخ المفاتيح، والتي قال والابتسامة لا تفارقه انها "اجمل فن عرفته في حياتي وفيه متعة لا يعرفها الا من يتقنها".

منافسة الماكينات
حتى عهد قريب، كانت خدمة نسخ المفاتيح مقتصرة على عدد محدود من المحلات المتواجدة خصوصا في شوارع "بولاد" و"عمر" و"الجيش"، والتي يعمل فيها اشخاص ورثوا المهنة من ابائهم، كما هي الحال مع الصمادي.

لكن مع بدء محلات مواد البناء في استيراد الات صنع ونسخ المفاتيح، اصبحت هذه الخدمة متوافرة في كل انحاء المدينة تقريبا، ولم يعد من الضروري ان يكون العامل فيها مؤهلا او لديه مهارات خاصة.

ويقر الصمادي بان الاقبال تراجع عموما بسبب هذه المحلات، والتي تعتبر نسخ المفاتيح مجرد "خدمة تضاف الى عملها الذي هو اساسا بيع مواد البناء".

ويعلق على ما يعتبره استسهالا من البعض للمهنة "يعتقد الناس ان المفتاح يوضع في الماكنة وهي تقوم بخراطة نسخة عنه، لكن ليس الموضوع بهذه البساطة، فنسخ المفتاح فن بحد ذاته، سواء من ناحية اخد القياسات واختيار الخامة للمفتاح"، مضيفا ان الالة وان كانت تنسخ مفتاحا، لكنها لا تستطيع "صنع مفتاح سويتش ضائع لسيارة او لمنزل".

ويوضح "هذه العملية تتطلب مهارة يدوية وتفكيكا للسويتش او الغال (نوعان من اقفال الابواب) للتعرف الى طبيعة ووضعية المسننات فيهما، ومن ثم اتخاذ قرار حول كيف سيكون شكل المفتاح المناسب".

الخبرة هي الاساس
يؤكد الصمادي ان نسخ المفاتيح التي تصنعها الالات تشتمل على عيوب في نحو 90 بالمئة من الحالات، مشيرا الى ان الكثير من الزبائن ياتون اليه طالبين اصلاح تلك العيوب حتى يتوافق المفتاح مع القفل الذي صنع لاجله.

ويعزو تلك العيوب الى قلة خبرة العاملين على "الماكينات" وضحالة معرفتهم بفن المفاتيح، وايضا رداءة الخامات المستخدمة لصنع النسخ، مبينا ان الدخلاء على الكار يعمدون الى استيراد هذه الخامات من الصين وغيرها، متحرين في ذلك رخص ثمنها ودون اعتبار لجودتها، وكل همهم ان يضمنوا اكبر ربح ممكن.

وبين ان النحاس هو افضل الخامات لصنع النسخ بسبب صلابته وديمومته، لكن سعره مرتفع قياسا بالخامات الاخرى، الامر الذي يجعل الطلب عليه قليلا، حيث ان الكثيرين يقدمون السعر على الجودة.

وتتراوح تكلفة نسخ مفتاح المنزل في محل الصمادي بين نصف دينار ودينار، وتستغرق العملية على الالة نحو دقيقة، وفي حالة صنع مفتاح بدل ضائع، فان الامر يتطلب احضار القفل وما بين ربع ساعة ونصف الساعة من العمل.

واغلب ما يتعامل معه الصمادي هو مفاتيح البيوت، كما انه كان يقوم حتى وقت قريب باصلاح انواع الاقفال، لكنه توقف عن ذلك مؤخرا، ووضع لافتة امام المحل كتب عليها "بطلنا نصلح غالات وسويتشات".

واوضح انه وضع هذه اللافتة بعدما ضاق ذرعا باسلوب تعامل بعض الزبائن والذين ياتيه الواحد منهم بقفل لم يستخدم منذ عشر سنوات ويريد اصلاحه بنفس سعر اصلاح قفل عمره سنة او سنتان، ويلح على انجاز العمل في اسرع وقت!.

واضاف سببا اخر، قائلا ان اصلاح القفل في محله ذي السقف المنخفض يستدعي وقوفه منحنيا لفترات طويلة، وهو ما بات يجهده كثيرا في الاونة الاخيرة، خصوصا وانه مصاب بالديسك.

لكن الصمادي مع ذلك يقول انه قد يقبل اصلاح بعض الغالات ذات الجودة العالية التي قد يصل سعر بعضها الى خمسين دينارا، حيث انها لا تتطلب وقتا طويلا، بل مهارة، كما ان اجرة اصلاحها مجزية اكثر من غيرها، ومثل هذه الاقفال نادرة حيث ان الناس تفضل نظيرتها الصينية الاقل سعرا، مع انها رديئة في معظمها كما ان عمرها قصير ومشاكلها كثيرة.

الامانة والنزاهة
وبرغم ان محله ملئ باشكال مفاتيح للسيارات، الا انه يكتفي بالنسخ ودون التعامل مع حالات المفتاح الضائع، حيث ان هذا الامر يستلزم وجود السيارة حتى يستطيع فك قفلها وصنع مفتاح مناسب له، وهو امر غير متاح بسبب زحمة السوق وعدم وجود مواقف بالمجان.

كما ان الصمادي يقول ان الكثير من السيارات الحديثة تعمل بمفاتيح الكترونية او فيها قطع الكترونية، وهو ما ليس متوفرا لديه، سواء من ناحية القطع او الاجهزة التي تتعامل مع هذا النوع من المفاتيح.

وبينما كان ناسخ المفاتيح المخضرم يقوم في اوقات سابقة باجابة الزبائن الذين يطلبونه لصيانة الاقفال في منازلهم، لكنه توقف عن ذلك منذ فترة بعيدة، بسبب المشقة واضطراره الى اغلاق المحل لعدة ساعات احيانا مع ما يتضمنه ذلك من خسارة لعدد اخر من الزبائن.

ولا تخلو مهنة الصمادي من مواقف طريفة، يروي منها موقفين احدهما لزبون جاءه بصورة لقفل باب بيته طالبا صنع مفتاح له، ولاخر صور المفتاح على جهاز هاتفه الخلوي، ويريد نسخة عنه!.

وهو يؤكد في هذا السياق ان بعض الناس ياتونه بمثل هذه الامور من باب السذاجة او عدم المعرفة بطبيعة عمله، لكن البعض الاخر قد لا تكون لديهم نوايا سليمة، وامثال هؤلاء يستطيع كشفهم بحكم الخبرة والفطنة، ولأن "سيماهم في وجوههم" كما يقول.

ويشدد الصمادي في هذا الصدد على الحساسية التي تتضمنها مهنة نسخ المفاتيح، مشيرا الى ان الامانة والنزاهة اهم ما يجب ان يتوافر في من يمارسها من صفات.

أضف تعليقك