موسم الملوخية.. لمّة للجارات وهدايا للغائبين
تقول الروايات ان الخليفة الحاكم بامر الله الذي عاش قبل الف عام، امر بمنع اكل الملوخية على عامة الناس لشدة اعجابه بها، وجعلها حكرا على امراء وملوك مصر، حتى بات يطلق عليها "الملوكية"، ثم جرى تصحيف الاسم بعدها الى "الملوخية".
وفي رواية اخرى، يؤكد المؤرخ الروماني بلينوس الحكيم ان الفراعنة هم اول من عرف الملوخية وادخلوها كوجبة اساسية ضمن برنامجهم الغذائي، بعدما كان يعتقد قبلها انها نبتة سامة، ومن حينها ارتحلت المعرفة بها في اصقاع منطقتنا العربية.
وعلى اختلاف الروايات وتعددها، الا ان الاكيد ان هذه النبتة تحتل حيزا في ذاكرة الاجيال في عصرنا الحديث، والتي لا تزال تتناقل ذات الطقوس الاجتماعية التي تواكب حلول موسمها الطويل نسبيا، بدءا من شرائها وتقطيفها وطبخها ثم تخزين مؤونة منها للشتاء.
ولعل اول ما يؤذن بحلول الموسم هو مشهد الباعة الذين يكدسون في عرباتهم وسياراتهم كميات هائلة من الملوخية، ويبدأون في التجوال على الحارات وهم يطلقون نداءات "تروحي نتف يا ملوخية"، وكذلك "حبش يا ملوخ" التي يشبهون فيها اوراق الملوخية الكثيفة بريش ديك الحبش.
البائع ابراهيم العبويني يصف الملوخية بانها "اكلة ملوكية يحبها كل الناس"، موضحا ان موسمها يبدأ منذ شهر آذار ويمتد حتى تشرين الاول من كل عام، مبينا ان كافة الكميات التي ترد الى الزرقاء هي من الاغوار، بمعنى انها منتج "بلدي 100 بالمئة".
وقال العبويني انه يبيع ما بين 100 الى 150 كيلوغراما منها يوميا، مشيرا الى ان "الاقبال على شرائها يكون كبيرا لدى نزولها الى الاسواق، ويستمر الاقبال حتى ما بعد منتصف الموسم، ومع تقدم موسمها يبدأ الاهالي بالشراء لغايات التجفيف والتفريز".
ويبلغ معدل سعر الملوخية غير المقطفة نحو دينار للكيلوغرام، فيما تباع (الفرط) باكثر من خمسة دنانير للكيلو، وخلافا لما كان في السابق، فان اكثر الاقبال هو على المقطفة كما يبين العبويني، وذلك لسهولة حملها من السوق الى البيت وايضا اعدادها للطهو من قبل ربة البيت.
ولفت الى انه وكثيرا من الباعة يعمدون الى "الاتفاق مع عائلات مستورة تقوم بتقطيف اوراق الملوخية لحسابهم، ويمنحونها خمسة دنانير مقابل كل 100 كيلوغرام مقطف، والذي يستغرقها تقطيفه نحو خمس ساعات عمل، وهناك اسر تنجز ما بين 300 و400 كيلوغرام في النهار الواحد، وكل اسرة وشطارتها ونشاطها".
وتقول فاطمة الزغول التي تعمل في مهنة تقطيف الملوخية منذ ثماني سنوات، انها تتلقى طلبات من زبائن اعتادوا على التعامل معها في كل موسم، حيث تتقاضى ربع دينار لقاء كل كيلوغرام تقوم بفرطه وغسله وفرمه وتجهيزه للتفريز.
طقوس ووصفات
وللموسم طقوس اجتماعية و"لمة حبايب" تتحدث عنها وفاء الفقهاء ام فارس قائلة انها "تبدأ من انتظار سيارة الملوخية حيث تجتمع نساء الحارة ليشترين منها كميات لواحدة منهن، وهي التي يكون لها الدور، ثم يتوزعن الى مجموعات مؤلفة في المعدل من عشر نساء تاخذ منهن قسما ويجتمعن في منزل احدى الجارات لتقطيف الاوراق واعدادها للتجفيف والتفريز، ويد الله مع الجماعة".
واضافت ان كل محموعة تنجز ما يصل الى 60 كيلوغراما يوميا "وخلال ذلك يستمتعن بشرب الشاي والقهوة، وقد يتناولن وجبة خفيفة من حواضر البيت، خصوصا اذا ما امتد بهن العمل الى ما بعد الظهر".
واشارت ام فارس الى ان "الحبايب الغائبين والمسافرين في الخليج واروبا واميركا يؤخذون في الحسبان، حيث يتم تجهيز كمية ملوخية مجففة لتقديمها لهم عندما يحضرون من السفر" وذلك على سبيل الهدايا.
وتتذكر سيدة اخرى هي ام زيد كيف كانت هي واخوتها يقبلون بسعادة على تناول وجبات الملوخية الطازجة والمفرمة بانواعها والتي تعدها والدتهم في غمرة الموسم.
وقالت ام زيد "كنا ونحن صغار نحتفل بالملوخية التي تطهوها والدتي وتضع فيها الدجاج، فتجد ملابسنا ووجوهنا ملطخة بها وكذلك ايدينا حتى الاكواع، مما يضطرنا الى ان نستحم بعدها".
واضافت ان والدتها اصبحت بعد ذلك "تطهو الملوخية بمرق الدجاج الذي تقوم بتحميره وتضعه منفردا في صينية ثم تسكب لكل منا صحن ملوخية وزبدية ارز لتلافي ما كان يحدث في كل مرة"، مشيرة بتندر الى ان زوجها الذي قالت انه كان يعتبر الملوخية مضرة بالصحة ولكنه "اصبح يسبقني الى المائدة عندما اطهوها".
وبسبب ضيق الوقت لانشغالها في الوظيفة فان ام زيد تعتمد على شراء الملوخية المقطفة والمفرمة، حيث ان انها لا تتقن فرم الملوخية اصلا، على حد تعبيرها.
والى حد بعيد، تتشابه طرق واساليب طهي الملوخية في معظم البلدان العربية، كما تبين رقية عبد السلام، وهي سيدة مغربية الاصل وتقطن الزرقاء منذ عشرات السنين.
وتوضح رقية انها تعلمت الطريقة من حماتها المصرية، والتي تطهو الدجاج كاملا دون تقطيع بجعله في مرقته مع اضافة ورق الغار والهيل والبصل، وتتركه ليحمر في الفرن، وبعدها تضيف اليه الملوخية المفرومة ناعما وتحركها المقادير جيدا الى ان تنضج، ثم تضع الكزبرة والثوم المفروم والمقلي، و"الشهقة" التي تعد احد اهم طقوس اعداد هذه الوجبة.
وتؤكد هذه السيدة ان الشهقة التي تضيفها المصريات الى الملوخية عند اضافة الثوم هي ما يمنحها سر المذاق المميز والشهي، مشيرة الى ان المغاربة يسمون البامية " ملوخية" وهي لا تعد وجبة مهة بالنسبة لهم.
اما منى فياض السورية الجنسية والتي تقيم في الزرقاء منذ اكثر من سنتين، فهي تقول ان عائلتها تفضل طهي الملوخية ورقا وليس مفرمة، حيث يسبق ذلك غسلها وعصرها ثم قليها في الزيت مع اضافة مرق الدجاج والكزبرة المجففة والثوم المدقوق والليمون.
واوضحت منى انه برغم بدء موسم الملوخية الخضراء، الا انها لا تزال لديها كمية مجففة ومفرزة منذ العام الماضي، وهي تخطط لطهيها قبل ان تقوم بشراء كميات جديدة.
يذكر ان أوراق الملوخية تحتوي على كمية وفيرة من فيتاميني (أ) و(ب) وأملاح الحديد والفسفور والكالسيوم والبوتاسيوم والمنجنيز والصوديوم، وأكثر ما يميزها عن غيرها من النباتات الورقية أنها لا تفقد أياً من مكوناتها الغذائية وفوائدها العلاجية بالغسيل والطهو، كما هي الحال مع أغذية أخرى مماثلة.