مسنات في الزرقاء يمضين خريف العمر بانتظار من لا يأتون
- مفتي المحافظة يعتبر رميهن في دار الرعاية "وصمة عار"
- بينهن أكبر معمّرة بالاردن عمرها 117 عاما وأقدم مقيمة منذ 29 عاما منسية في الدار
جلست العجوز النحيلة ساكنة في كرسيها المتحرك الذي اتخذت له زاوية قصية من صالة المعيشة في مركز الاميرة منى للمسنين، وعلائم صدمة لا تفارق محياها الذي حفر فيه الزمان اخاديد غائرة.
اودعها أخوها المركز قبل ايام، حسبما يخبرنا مديره فرح حداد، ومن حينها والوجوم لا يفارقها، فيما بصرها لا ينفك يجول في اركان الصالة كانما يبحث عن اجابة للسؤال المفجع: لماذا؟ّ!
ومثل الهزة التي ينتظرها البركان حتى يثور، جاء سؤالنا لها عن حكاية دخولها الى المركز ليطلق العنان لحزن يمور في وجدانها، ففاض دموعا ساخنة سخية من عينيها اللتين بهت بريقهما.
واستغرقت طويلا في البكاء دون ان تبدر كلمة واحدة من شفتيها المرتجفتين.
وغير بعيد، كانت عجوز بشوشة تصدر اوامرها لكادر المركز حتى يجهزوا لنا الغداء.
وعلى ما يبدو فقد كانت في سابق عهدها ابنة "بيت عز وكرم" كما يقول حداد الذي قدر عمرها بنحو 117 عاما.
واذا ما تأكد ذلك، فهذا كفيل بان يجعلها عميدة المسنين الذين تؤيهم دور المسنين العشرة في الاردن، والذين يصل عددهم الى نحو 350.
وليس مستبعدا ايضا ان تكون هذه العجوز التي لم نعرف الكثير عن قصة اقامتها في المركز، اكبر معمرة على مستوى مواطني المملكة.
لكل حكايتها
ويضم المركز الذي تاسس عام 1965، ويتبع للجمعية الارثذوكسية الخيرية، 24 نزيلة اقدمهن مضى على اقامتها 29 سنة.
ومع طول امد الاقامة في المركز فقد تشكلت بين النزيلات، ومعظمهن فوق الخامسة والستين، اواصر اشبه بالاخوة المنزهة عن مآرب الدنيا كما هو الحال مع "خيرية" الضريرة و"النزيلة" السهاونة.
كانتا تشاهدان التلفزيون في صالة المركز عندما اشاحت السهاونة ببصرها لترد علينا قائلة بحزن يبدو انها اعتادته "لا اخ ولا عم، ولا حتى ابنتي الوحيدة تزورني".
ولكل واحدة من النزيلات قصة لا تقل فصولها ايلاما عن الاخرى، لكن معظمهن تأقلمن مع عالمهن داخل اسوار المركز.
بينهن من تتودد الى الزوار طالبة سيجارة، ومن تحدثهم باخص خصوصياتها كما لو تعرفهم منذ امد بعيد، ومن تسخر من حالها فتخبرك بتندر عن اختها التي رفضت استقبالها خشية ان يطيب لها المقام في بيتها.
وتتنوع المقدمات التي قادت كلا منهن الى دخول المركز، فمن ابناء عاقين ركنوا الى دعة الحياة مع زوجاتهم على حساب امهاتهم، الى ازواج طلقوهن لاجل اخريات، الى ظروف خارجة عن المالوف كانقطاع الصلة بينهن واي قريب في الدنيا.
كما ان هناك من اضطرتهم الظروف المالية الصعبة الى البحث عن مكان يؤوون فيه اباءهم علهم يجدون الطعام والسترة، والبعض منهم يكون ابوه او امه مريضا وبحاجة الى رعاية صحية خاصة، فيجد ضالته في مركز الايواء.
نهاية المطاف؟
ودخول مركز الاميرة منى للرعاية، وهو الوحيد من نوعه في الزرقاء، لا يعني ان مغادرته تكون فقط الى القبر، فهناك قصص عن مسنات عدن الى الحياة خارج الاسوار بفضل ما يشبه المعجزة او بعدما رق لهن قلب اخ او ابن او قريب.
ويروى حداد قصة من هذا القبيل لنزيلة حاصلة على درجة الماجستير في الشريعة، وانتهى بها المطاف في المركز بعدما طلقها زوجها وتزوج من اخرى.
ويقول حداد ان زوجها السابق "أخذ ابناءها منها، ولكنهم لما كبروا بحثوا عنها وأخرجوها من المركز".
وبدوره يروي زايد حداد عضو الهيئة الإدارية للمركز قصة مؤثرة اخرى ويقول "قبل ثماني سنوات حضر رجل في السبعين من عمره مصطحبا عمته التي يتجاوز عمرها 85 عاما، واودعها عندنا وغادر بعدما ترك لها بعض المال".
ويتابع حداد "وفي الثامنة من صبيحة اليوم التالي، وكان يوم جمعة، وجدنا الرجل يعود ليسترجع عمته، مبديا ندمه لإيوائها في مركز المسنين حتى انه حملها بنفسه من سريرها ووضعها في سيارته رافضا اي مساعدة وكأنما يريد التكفير عن ذنبه".
وكما يبين فرح حداد مدير المركز، فان ابرز ما تعاني منه النزيلات هو قلة زيارات ذويهن وجفوتهم لهن.
ودرج المجاورون للمركز على زيارة المسنات في المناسبات والاعياد للتسرية عنهن، ولكن حداد يعتبر انه "مهما جاء النزيلة من زوار، فانها لا تفرح كما تفرح حين تشاهد ابنا او حفيدا او اخا".
ويصارحنا حداد بان اكبر امنياته هي ان لا يعود هناك مسن في البلاد بحاجة الى دار ايواء.
وعندما سألناه عما سيفعله بالدار في حال تحققت هذه الامنية، اجاب مبتسما "حينها ساحولها الى مركز للأنشطة الإجتماعية".
عناية وعلاج
وحسب ما يوضحه زايد حداد عضو الهيئة الادارية، فقد حددت مديرية التنمية الاجتماعية سقفا اعلى لعدد النزيلات في المركز ممن تتكفل بنفقاتهن بما لا يتجاوز 24 نزيلة.
ومن أصل 350 مسنا في دور الرعاية تتكفل وزارة التنمية بنفقات رعاية 150، وبواقع 260 دينارا شهريا لكل منهم.
وعلى ما يتضح من حديث حداد، فهناك ست نزيلات من اصل ثلاثين في المركز لا تنفق عليهن مديرية التنمية، بل ذووهن الذين قال ان "بعضهم يدفع 300 دينار شهريا، والبعض 150، وكل حسب مقدرته".
ويؤكد حداد ان "المركز لا يوافق على إيواء أي نزيلة تعاني من أمراض سارية أو أمراض نفسية عنيفة حتى لا تؤذي زميلاتها فيما بعد".
وتشمل الخدمات المقدمة، وحسب ما توضحه عفاف نصار المشرفة والممرضة في المركز "طعام النزيلات ونظافتهن والاشراف على وضعهن الصحي كمتابعة علاجاتهن وتناولها في الأوقات المحددة".
وتوفر مديرية التنمية الادوية والعلاج للنزيلات بالتعاون مع مستشفى الزرقاء الحكومي.
وفي هذا السياق، تبدي نصار استياءها من المعاملة السيئة التي تلقاها النزيلات في هذا المستشفى.
وتقول انهن "يتعرضن لاهمال كبير وبخاصة من قبل الممرضات، لدرجة ان بعضهن كن يعدن الى المركز وهن مصابات بالتقرحات التي قد لا تشفى في أحيان كثيرة".
واكدت نصار ان المركز تقدم بعدة شكاوى لادارة المستشفى "ولكن دون جدوى".
حماية القانون
ومن جهتها، تبين رابعة الصرايرة من قسم الأسرة والطفولة في مديرية تنمية الزرقاء، ان النزيل او ذووه يدفعون جزءا من النفقات التي تترتب لمراكز الرعاية، وبواقع 20 دينارا للمشمولين بالضمان الاجتماعي و25 دينار لغير المشمولين.
وتشير الصرايرة الى ان المديرية تقوم في بعض الحالات باتخاذ قرار ايواء المسن في دار الرعاية ودون موافقة ذويه، وذلك اذا ما اتضح انه يتعرض لسوء معاملة من قبلهم.
وحول الاجراءات التي تسبق اتخاذ مثل هذا القرار، تقول الصرايرة "عندما ترد لنا معلومة، وعادة تكون من فاعل خير، حول بوجود مسن معنف، فانه يتم التأكد بداية من وضعه ومن صحة المعلومة".
وتضيف انه اذا ما تاكدت المعلومة فانه يصار الى " تقديم برامج توعوية للأبناء في كيفية التعامل مع المسنين، وخلال ذلك تجري مراقبة وضع المسن عن بعد، وإذا لم يلتزم الابناء بالبرنامج يتقرر حينها إيواء المسن في دار الرعاية".
ويلزم القانون ابناء واقرباء المسن بالانفاق عليه سواء في دار الرعاية او غيرها في حال لم يكن هو نفسه قادرا على ذلك.
وتوضح المحامية النظامية رانيا الرواشدة هذه الحيثية قائلة ان المادة 197 من قانون الأحوال الشخصية نصت على انه "يجب على الولد الموسر ذكراً كان أو أنثى، كبيراً كان أو صغيراً، نفقـة والديـه الفقيرين، ولو كانا قادرين على الكسب".
ونوهت الى ان "القانون حازم في مسألة الإنفاق على الوالدين، فالقاضي يلزم الأبناء بالنفقة، وفي حالة رفضهم الإنصياع يتم حبسهم إلى حين الإذعان ودفع النفقة".
وعن كبار السن ممن لم ينجبوا، فان المحامية الرواشدة تبين ان هؤلاء "تحميهم الدولة حيث ألزمت اقرباءهم بالنفقة عليهم".
وتشير في السياق الى المادة 198 من قانون الأحوال الشخصية التي نصت على انه "تجب نفقة الصغار الفقراء وكل كبير فقير عاجز عن الكسب بآفة بدنية أو عقلية على من يرثهم من أقاربهم الموسرين بحسب حصصهم الإرثية".
وصمة عار
وفي مجتمعنا الذي يفترض ان يكون مقتديا وملتزما بتعاليم الدين الاسلامي التي تحض على بر الوالدين، فان وجود دور الرعاية التي يتم زج احدهما او كليهما فيها تعد "وصمة عار" على ما يراه مدير افتاء الزرقاء الدكتور أحـمـد الحراسيس.
وقال الحراسيس ان "وجود مراكز رعاية المسنين قد تكون وصمة عار على المسلمين اليوم،، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)".
واضاف ان "من رزقه الله بابا من أبواب الجنة كيف له أن يضيع هذا الباب؟، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:- الوالد أوسط أبواب الجنة-، كما يقول عن الام: - إلزمها فإن الجنة تحت قدميها-".
وتابع الحراسيس قائلا ان "الله سبحانه يعجل بالعقوبة للإنسان الذي يعق والديه في الدنيا قبل الآخرة".
ذات الامر تؤكد عليه عائشة عبد العزيز مديرة جمعية خولة بنت الأزور قائلة ان "ديننا الحنيف أمرنا بطاعة الوالدين، وعلمنا أن طاعة الوالدين من طاعة رب العالمين، كما ان الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى الأبناء بابائهم".
ولا تختلف توصيفات العديد من المواطنين مع ما ذهب اليه المفتي الحراسيس، حيث يعتبر فادي الخزاعلة ان "إيواء الوالدين في دور رعاية المسنين جريمة".
وقال انه "إذا كان البعض يتذرع بالأوضاع الإقتصادية فهي ليست مبررا إطلاقا، فقد يرزقه الله بسبب تعامله ورعايته لهما".
وفي اشارة الى مشاكل الزوجات والامهات التي تضطر البعض الى ابعاد امهاتهم، فان الخزاعلة يرى ان "على الزوج أن يضع حدا لمشكلة زوجته ووالدته في أن يعطي كلا منهما حقها في العناية والإهتمام، فللزوجة حق كما للأم حق".
ولكنه يرى انه "إذا اضطر الابن أن يودع والدته في مركز رعاية المسنات فعليه أن يزورها ويطمئن عليها يوميا".
اما جميلة ابو حلتم فتقول انه "لو ان كل شخص تمعن في القرآن، فلن يسهل عليه أن يضع والديه في دار رعاية المسنين".
ويعبر ناجي العوريفي عن استهجانه من قيام البعض بايواء والديهم في دور المسنين لدرجة انه يدعو على من يفعل ذلك بان "لا يسامحه الله وان يكون مصيره ان يلقى يوما ما فعله بهما".
إستمع الآن