تروي ابنة الوزير والعين والنائب الأسبق الشيخ عبدالباقي جمو عن ابيها الذي انتقل الى رحمة الله تعالى في 11 آيـار، ان زهاء 82 امراة اشهرن اسلامهن علي يديه، واكثر منهن رجال كان بينهم ملحق ثقافي في السفارة الفرنسية لدى المملكة.
ربما يعد هذا فصلا لا يعرفه كثيرون من حياة الشيخ الذي كان اصغر خطيب يعتلي منابر مساجد الزرقاء وهو في الرابعة عشرة من عمره، وظل مصرا على عدم مفارقة هذه المدينة التي شهدت ولادته لابوين شيشانيين مهاجرين عام 1924، وبقي فيها حتى اخر يوم في حياته.
كان شديد التعلق بالزرقاء، هكذا تصف هيام اباها الذي تخرج من الازهر حيث درس العلوم الشرعية، وبدأ حياته الوظيفية اماما ومدرسا وخطيبا في مسجد المدينة الكبير، ثم مامورا للاوقاف، قبل ان ينخرط في العمل السياسي عبر انضمامه الى جماعة الاخوان المسلمين التي انفصل عنها لاحقا، ثم دخوله الى مجلس النواب عام 1956 نائبا عن المقعد الشيشاني.
ومع استئناف الحياة النيابية في البلاد عام 1989 عقب انقطاع دام منذ العام 1974، عاد جمو الى مقعده في المجلس ثم شغل بعدها اول مناصبه الوزارية. ولم يلبث ان عرضت عليه رئاسة جمهورية الشيشان، لكنه زهد فيها مؤثرا البقاء في الزرقاء.
وفي قرار غير معلن، كان الشيخ يعتزل العمل السياسي عام 1997، ويعتكف في مدينته متفرغا لخدمة ابنائها وللاعمال الخيرية التي جعلها ديدن حياته منذ ان وعت عيناه على الدنيا.
وتكشف هيام احد اسرار تعلق ابيها بالزرقاء عبر ايرادها حوارا دار بينه وبين اختها الكبرى جيهان التي تقيم في عمان، حيث اشارت عليه يوما بالانتقال للسكن هناك، فما كان منه الا ان رد عليها قائلا "يا ابنتي، ربي يسرني لاخدم الناس، واحب ان اكون حيث يستطيع افقر شخص ان يصل الي".
"حمل هم الناس"
بشجن، تؤكد الابنة ان والدها الذي كان احد ابرز مشايخ الشركس والشيشان في الأردن "حمل هم الناس طوال حياته"، وكان يؤثرهم حتى على ابنائه.
وللراحل اربع بنات، وثلاثة اولاد ذكور، وهؤلاء الاخيرين توفوا جميعهم اثناء حياته، واكبرهم هارون.
وتستحضر هيام موقفا يلخص مدى الايثار في نفس ابيها، قائلة انها قصدته بعد تخرج ابنائها حتى يتوسط في توظيفهم، لكنه رفض وقال لها "الا تعلمين أن هناك أولاد ناس تخرجوا منذ سنوات وحتى الآن لم يجدوا وظيفة؟ لم أنت مستعجلة؟ أنا في مقدوري الانفاق على اولادي واحفادي، وأريد أن اترك مجالا للاخرين حتى يجدوا عملا".
واكدت انه كان يمتعض حين يسمع ان شخصا ما بنى بيتا بمئات الالوف من الدنانير، ويقول "لو كان معي هذا المبلغ لما جمدته في الحجر، كنت سافرّج به على كثير من ابناء هذا البلد".
وتابعت هيام واصفة اباها بانه "كان حنونا..صحيح أن الأم احن من الاب، لكن هو كان احن من الامهات".
واضافت والحزن يتخلل صوتها : "لم نكن نراه كثيرا لانشغاله الدائم، ولكن اتيح لنا ذلك في السنوات الاخيرة من حياته حين مرض، وقد سمعنا منه خلالها الكثير عن امور لم نكن نعرفها عنه واثارت دهشتنا.. وربما انه لم يخبرنا بها سابقا حتى لا نغتر ويصيبنا الكبر".
واستدركت "علمنا على البساطة وزرع فينا حب الدين والناس، واوصانا بذلك،وكان يقول لنا كونوا مثلي، فهو لا ينسى الاساءة ،ولكنه يغفر للجميع".
ووصفت هيام زيارة الملك لمواساتهم بانها "رفعت معنوياتنا وكانت لفتة جميلة جدا"، مشيرة الى ان بيوت عزاء فتحت لوالدها في فلسطين وتركيا والشيشان، كما اقيمت عليه صلاة الغائب في مئتي مسجد.
"زرع فينا حب الهاشميين"
ذات المشاعر الجياشة التي عبرت عن الاثر الطيب والعميق في النفوس الذي تركته زيارة الملك، تردد صداها في حديث جيهان، الابنة الكبرى لجمو، والتي اكدت ان "والدنا زرع فينا حب الهاشميين، ونحن مثله نحبهم كثيرا".
واضافت جيهان التي اقامت مع والدها الراحل بعد وفاة زوجها قبل نحو عقد من الزمن "انا سعيدة جدا لتمكني من البقاء معه طوال هذه الفترة والاعتناء به في مرضه، وسماع كلماته وهو يقول لي: جيهان، انت لست ابنتي، انت أمي".
ومن بعض وصاياه التي تذكرها ابنته الثالثة الهام انه "كان يحثنا على حسن معاملة الناس، ويحذرنا من التعالي عليهم قائلا: ما بتعرفوا ايش مخبي الزمن، اياكم تزعلوا احد".
وقالت الهام ان الشيخ "كان بابه مفتوحا على الدوام ولا يغلقه في وجه احد، وكان يجير الدخيلات ومن يريدون اشهار اسلامهم، وبيته طيلة الوقت عامر بالناس واصحاب الحاجة، واشبه ما يكون بدائرة حكومية، لكنها تعمل على مدار 24 ساعة وليس حتى الثانية ظهرا كبقية الدوائر الحكومية".
وتكشف الابنة الصغرى اسماء عن ان "هاتف البيت ايضا لم يكن يكف عن الرنين طيلة الوقت" مؤكدة ان "من اصحاب الحاجة من كان يقف بالباب منذ الساعة السادسة صباحا بانتظار استيقاظ الشيخ، حتى اني لا اذكر انه أكمل وجبة افطاره يوما".
واضافت ان "الناس يعرفون ابي ومواقفه اكثر منا، فهو عاش بينهم، وكانت تمر ايام لا نراه فيها.. واللحظات المميزة لنا معه كانت قليلة، لكنه كان يمنحنا فيها حنان الدنيا. لقد كان يحبنا اكثر من روحه".
"ميزان للحكمة"
عقود أفناها جمو في العمل الخيري وإصلاح ذات البين، وامتاز بانه كان خلالها "ميزانا للحكمة"، كما يصفه المتصرف حسين الحديد مساعد محافظ الزرقاء لشؤون العشائر.
وقال الحديد ان جمو من الرجال النادرين الذين يمتلك احدهم "الحكمة والحنكة والخبرة والعقلية المتفتحة، وينظر (للامور) بموضوعية وأمانة"، مضيفا انه "كان ميزانا للحكمة" ومرجعا للاستشارة في الكثير من القضايا،وصاحب حضور مميز من خلال التزامه بالحق وعدم مجاملته فيه.
واكد ان "غياب الشيخ سيترك فراغا كبيرا، خصوصا على البعد العشائري: حيث ان كان له تاثيره الواضح على المجتمع.
وتابع الحديد انه عندما كان يسير في اصلاح ذات البين في قضية مثل القتل او هتك العرض او تقطيع الوجه، ويذكر فيها اسم جمو، يجد الجميع يقولون: "انتهينا، وصلنا للحق".
واضاف ان الشيخ "كان يمتاز بالستر في القضايا التي يتدخل فيها.. وبحيث لم تكن تصل القضية للدولة، بل تنستر سواء بزواج أو إصلاح بنفس موقع الحادث ان كان دهسا او غيره".
ولفت الى انه عندما كان يتم اللجوء الى جمو لكتابة صك صلح، فانه "يكتبه على أصوله بحيث لا تكون شروطه تعجيزية.. بل ضمن المنطق وضمن قدرات الناس".
جدير بالذكر ان شدة تواضع الراحل كانت تجعله لا يحبذ تسميته بالشيخ، وقد كشف عن ذلك خلال مقابلة اجرتها معه "هنا الزرقاء" عام 2014.
حيث قال حينها "أرفض أن يقال عني شيخ. ولما سالوني مرة لماذا ؟؟ قلت مازحا: لأن الشيخ لغة من بلغ الأربعين وفي رواية من بلغ الخمسين، وأما في اللفظ الآخر، فللشيخ تعريفه في اللغة العربية وهو من بلغ رتبة أهل الفضل و لو كان صبيا. فقلت: لا أدَّعي ولا يجوز لي أن أدَّعي أنني بلغت رتبة أهل الفضل حتى يقال عني شيخ".
الشيخ جمو في سطور:
ولد الراحل في مدينة الزرقاء 1924 وحمل شهادة التخصص في العلوم الشرعية من جامعة الازهر الشريف بالقاهرة.
شغل الفقيد مناصب عديدة في الدولة، وقد عمل اماما ومدرسا وخطيبا في مسجد الزرقاء الكبير، مامور اوقاف مدينة الزرقاء وفي 1956 عضو مجلس النواب الاردني، 1961-1963 عضو مجلس النواب الاردني، 1989-1991 وزير دولة للشؤون البرلمانية في حكومة رئيس الوزراء حينها مضر بدران،.
وفي 1994-1995 شغل وزير دولة للشؤون القانونية والبرلمانية في عهد حكومة الدكتور عبد السلام المجالي ليعمل على سن التشريعات التي ترسل إلى مجلس الأمة، ثم عضو مجلس الأعيان.
ويعد جمو من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين واحد قياداتها السابقين حيث كان نائب المراقب العام للجماعة عام 1956.
ويعتبر الشيخ جمو ايضا اكبر النواب سنا منذ تأسيس الدولة، حيث دخل مجلس النواب في عام 1956، وترأس اللجنة القانونية 16 عاما، حتى أنه كان يتذكر اليوم الذي دخل فيه البرلمان وهو في 21/1/1956.
وهو حاصل على وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى .