ظروف قاسية لم تمنع الفلسطيني محمود من النجاح بالتوجيهي
لم يكد محمود يصدق أن اسمه كان بين قوائم الناجحين في الثانوية العامة في الضفة الغربية المحتلة؛ فالظروف التي مر بها أقل ما تكون مأساوية لفتى في عمره.
الحكاية بدأت منذ أن كان الفتى محمود المغربي من مدينة بيت لحم جنينا في بطن أمه؛ حيث طاله ظلم الاحتلال منذ ذلك الحين، وتعرض طيلة أعوام عمره الثمانية عشر لأشكال عدة من الحرمان، بدأت بحرمانه من والده، ولم تنته بحرمانه من الحرية.
ويقول المغربي لـ"عربي٢١" إن أمه كانت حاملا به بعمر أربعة أشهر، حين اعتقلت قوات الاحتلال والده عام ٢٠٠٢، وبعدها تم الحكم عليه بالسجن المؤبد ١٨ مرة، ليحكم كذلك على الطفل أن يولد ويتربى دون أب.
وبعدها توالت المظالم، إلى أن وصل الحال بهدم منزل العائلة، وكل ذلك كان يعيشه محمود وهو ما يزال جنينا ينتظر الخروج للدنيا.
خمسة أشهر فقط أمضتها والدة محمود مع زوجها، الذي سرعان ما أصبح مطاردا للاحتلال مع اندلاع انتفاضة الأقصى، حيث كان واحدا من أبرز المقاومين في مدينة بيت لحم الذين تصدوا للاجتياح الإسرائيلي بشراسة، وخلال ذلك فقد أحد أشقائه شهيدا وشقيقين اعتقلا في الفترة ذاتها.
أما أحمد والد محمود، فحاول الاحتلال اغتياله عدة مرات أصيب خلالها إصابات بالغة؛ وربما هو الأمر الذي جعل زوجته "هنادي المغربي" تتوقع استشهاده في أي لحظة.
وتقول لـ"عربي٢١" إن تلك الفترة كانت صعبة للغاية؛ فهي عروس جديدة، وحامل بطفلها الأول، وزوجها مطارد، حتى وصلها خبر اعتقاله، ولم تكن تتوقع ذلك، خاصة أن أحمد كان شديد النباهة والفطنة، ولم يكن من السهل العثور عليه.
بقي زوجها رهن التحقيق العسكري القاسي لأكثر من شهرين دون أن يعلم عنه أحد شيئا، وبقيت هي تخطط لمولد طفلها، على أمل أن يكون زوجها خارج الأسر، لكنها أنجبت محمود بينما والده يكابد سجون الاحتلال.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أقدمت إسرائيل على هدم منزل أحمد أسوة بعشرات المنازل لمقاومين فلسطينيين؛ ما زاد من معاناة العائلة، خاصة هنادي التي اضطرت للتكيف مع كل شيء.
تقول هنادي: "كنت كلما أنظر إلى وجه محمود الطفل أرى والده أحمد؛ فأبتسم له، وأدعو بالإفراج عنه، ولكن مشيئة الله كانت أن يتم الحكم عليه لثمانية عشر مؤبدا، فكان الحكم صاعقة نزلت علينا".
بدأت رحلة محمود في حياته دون والد يسانده أو يعطف عليه، ولكن جده والد أبيه تكفل بذلك فهو ابن "الغالي" الذي كبلته قيود الاحتلال وأبعدته عنه.
لم يسمح الاحتلال لأي من أفراد العائلة بزيارة الأسير أحمد لثمانية أعوام متتالية، حتى كبر محمود وأصبح في الصف الثالث الابتدائي، فسمح له بالزيارة مع والدته في أصعب وأجمل ٤٥ دقيقة مرت عليهم جميعا.
وتوضح هنادي أن تلك الزيارة التاريخية لا تغيب عن ذهنها أبدا، وأن محمود حينها كان يتصرف كرجل وليس كطفل، حيث سأله والده: "هل تعرفني؟" فأجاب: "بالطبع، وأعرف كل شيء عنك".
أمضى أحمد حتى الآن ١٨ عاما في سجون الاحتلال، منها ١١ عاما في العزل الانفرادي، وكان في غالبية الأوقات يحرم من الزيارات العائلية، ومعناه أن محمود كان ممنوعا من رؤيته ليتعرف على الأقل على شكله ووجهه وطريقة كلامه وأفكاره.
يقول محمود إنه في تلك الفترة تعرف على والده من خلال الصور وحديث والدته عنه وأفراد أسرته مثل جده وجدته؛ وإنه كان وما زال فخورا به وينتظر زيارته بين الحين والآخر.
ولكن ظرفا جديدا قاسيا حل على محمود، وهو اعتقال والدته كذلك! فبقي وحيدا في منزله الموحش وضيفا على جديه اللذين كانا يعيشان أياما صعبة كذلك بسبب غياب ابنهما وزوجته.
وتبين هنادي أنها اعتقلت لشهر في التحقيق القاسي، ثم أفرج عنها، مع الحبس المنزلي لمدة ١١ شهرا، حيث منعت من الخروج من ساحة منزلها لما يقارب العام، ما أثر كذلك على محمود الذي اعتاد أن تصطحبه والدته لمدرسته وأماكن الأخرى.
الثانوية العامة
بقي الحال كذلك حتى وصل الفتى إلى الثانوية العامة؛ كانت والدته التي تعمل معلمة لمادة اللغة العربية لهذا الصف تشجعه على الدراسة والحصول على معدل جيد كي يدخل أي تخصص يريده.
ولكن ليس كل ما تتمناه هذه العائلة تدركه؛ فالاحتلال كانت له مخططات أخرى، حيث قام في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام ٢٠١٩ باعتقال محمود خلال مسيرة احتجاج نظمها الطلبة بعد استشهاد شاب بدم بارد.
وصل الخبر لهنادي، فبدأ القلق يسري في عروقها؛ كيف يهدأ لها بال وابنها الذي تنتظر نجاحه قد اعتقل، وأصبح مع زوجها حبيس الجدران والزنازين، وذلك قبل عشرة أيام فقط من موعد زيارة جديدة نادرة لوالده.
أيام وليال طويلة قاسية مرت على محمود في الاعتقال، فقد تعرض للتحقيق المزعج، ونقل إلى قسم الأشبال الأسرى في سجن عوفر، ولكن وسط برد كانون الأول الشديد قام الاحتلال بنقله مع مجموعة من الفتية المعتقلين إلى قسم في سجن الدامون شمال فلسطين، وهناك كانت معاناة من نوع آخر.
وتضيف هنادي: "كان الوضع مزريا هناك، حيث كان ينام وهو جائع، ويشعر بالبرد والعطش، كانت الزنازين باردة جدا، ويحرمهم الاحتلال من الأغطية، ويمنع عنهم الملابس، وكان يقدم لهم وجبة يوميا لا تشبه الطعام إلا بالاسم، كما يتم الاعتداء عليهم بين الحين والآخر وقمعهم".
ولكن أمل الأم لم ينقطع؛ حيث بقيت مصرة على أن ينجح ابنها في الثانوية العامة، وعقدت كل آمالها على ذلك؛ ورغم ضياع الفصل الأول كله عليه، إلا أنها أتمت التسجيل له للفصل الثاني، وجهزت أوراقه كاملة.
وبعد ثلاثة أشهر من الاعتقال الشائك، أصدر الحكم على محمود بالسجن لأربعة أشهر وغرامة مالية، وبعد الإفراج عنه بقيت والدته مصرة على أن يعوض ما فاته بينما كان الكل يتوقع أن يرسب في الامتحانات.
وتقول: "على الفور، بدأت معه في برنامج يومي، بحيث ركزنا على المواد الرئيسية الهامة، وتعبت كثيرا؛ في محاولة لاستدراك ما ضاع عليه في الاعتقال".
اقترب يوم النتائج وهنادي ومحمود يشعران بالقلق، بل كل عائلته، وكأنها نتيجة لما مر به طيلة حياته، وحين صدرت النتيجة بنجاحه انزاح جبل من الهم عن كاهله، وبدأت هنادي تشعر بالفخر لما حققه ابنها الذي كبر بلا أب ولا بيت ولا حياة عادية.