يأس يقاتل يأساً

يأس يقاتل يأساً
الرابط المختصر

يُطلق على ما نعيش هذه السنوات: "زمن الجنون"، أو "أيام الدم الرخيص"، أو "الموت المَجانيّ"، أو "القتل العَبَثيّ"، أو "العقل الضائع"!

 

كلّ هذه الصفات والتسميات وأكثر منها تليق بما نعيش يومياً، ونشاهد، ونسمع، ونقرأ. ثم إثر ثلاث وجبات دسمة من الأنباء الحاملة للأحداث اليومية المتكررة على هذا المنوال والتعليقات عليها، ترانا نغلق وسيلة الإعلام ووسائط "التواصل الاجتماعي"، لنعود إلى يومنا العادي!

 

مدينة دير الزور السورية، ومنذ أكثر من سنة، وبحسب الصليب الأحمر، تقتات على الخبز مغموساً بالماء! فقراء بلدنا بغمسونه بالشاي. محاصَرو دير الزور لا يجدون سوى الماء (فالشاي أصبح تَرَفاً)، والبراميل المتفجرة الهابطة عليهم من سماء الرحمة، كما يفهمها نظامٌ خلطَ بين مفهوم الدولة والوطن الخالي من مواطنيه!

 

ما "العادي" في أيامنا التي تكِّرُ وتنفرط من أعمارنا، وكل واحد منا يجهد للحصول على حفنة فرح؟ لقطف وردة يهديها لروحه القلقة؟ لاقتناص ساعة يكون فيها بليداً، فلا يطرح الأسئلة على نفسه؟ لم نعد مقتنعين بالحصول على جواب صادق واحد يأتينا من كافة "المراجع ومصادر المعلومات والمعارف" متعددة الاختصاصات، متعدية الثوابت ومخالفتها، متلونة الولاءات للجهات الأربع، إلى درجة باتت اللغة تغترب عن نفسها حين يعملون على "جعلكتها" وإعادة كيها وترتيبها لتتناسب والخطابات المتشقلبة، كأي بهلوان في سيرك لا ينتظر التصفيق من أحد، حتّى!

 

صدرت فتوى محلية شرعية رسمية قبل أيام تحرِّم على المسلم تكفير المسلم. انتهت الفتوى فانتهى الخبر. ماذا عن تكفير المسلم لغير المسلم من مواطني البلد المسيحيين على سبيل التحديد لا المثال؛ أهذا حرامٌ أم حلال؟ نسأل، وننتظر الجواب الشرعي الرسمي الزاعم بأنه يقف ضد التطرف، ويتصدى للإرهاب، وينبذ الفتنة!

 

يُضطر الواحد منا أن يجترح لنفسه جوابه الخاص، في فضاء يسوده الخطاب الرسمي الناقص والمضطرب. ويسوطه النفاق الآخذ بحماقة وصفاقة الطير البشع عند تقليده للطاووس الجميل. وتجلله الأصوات العالية، الزاعقة، المحترفة تكفير وتخوين وشتم كل مختلف معها، أو المختلف عنها، لتصل إلى البعيد عنها وعن غيرها. يُكفّرون ويُخوّنون ويشتمون بسهولة التنفس. يُضطر الواحد منا لأن يجاهد للعثور على جوابه الخاص للسؤال عمّا يحدث حقاً، وبالتالي نصبح أضخم موسوعة في التاريخ تتضمن ملايين الإجابات عن سؤال واحد! سؤال واحد يخصّنا نحن.. لا سوانا!

لم نعد نعرف مَن نحن.

لم نعد نعرف ما نحن.

وبين "مَن" بمعنى الإنسان، و"ما" بمدلول الجماد، ثمة فرق كبير كبير.

 

لا شيء بات يؤخذ على محمل التصديق. وصلنا إلى هذا الحد. أوصلونا إلى أكثر من هذا الحد، ودفعوا بنا إلى منطقة التساؤل عن حقيقة هويتنا الجامعة والتشكيك بها، وألقوا بنا في مستنقعات العناصر الصغرى لهذه الهوية لنختار منها ما نبني بواسطته سدوداً، وجدراناً عالية، وخنادق، ومتاريس، ولم يغفلوا عن تزويدنا بما يكفي من أسلحة (بأكثر من معنى) تصلح لأن نبيد بها بعضنا بعضاً، شريطة أن يخرج "المنتصر" من حمامات الدم هذه، ودمار المدن تلك، وخراب الأرواح جميعها "خاسراً"!

 

لعبة بمعادلة شيطانية، أليس كذلك؟

لكننا نمارسها بحماسٍ منقطع النظير، وجميعنا في مرايانا شرفاء وعلى حق!

بؤسٌ يقاتل بؤساً، وإليكم آخر أنبائه:

ما يقارب ثلاثين إفريقياً من المهاجرين غير الشرعيين في قارب تهريب هدفهم تحصيل حياة مسروقة منهم في بلدانهم. نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين. اختلفوا حول مسألة ما، واحتدّوا، وتعاركوا، ووعدوا وتوعدوا، ثم ما لبث أحد "الفريقين" أن ألقى بأفراد "الفريق" الآخر في البحر! حدث هذا بالأمس ربما، في المياه الإقليمية أمام الشواطئ الإيطالية! هذا ما كان في تقرير مراسل إحدى الإذاعات المعروفة بمصداقيتها.

 

قلتُ: هو بؤسُ يقاتل بؤساً.

أقول الآن: هو يأسٌ يقاتل يأساً. يأسٌ دُفِعَ لأنْ يقاتل ليَقتُل.. أو ليُقتَل.

أما عن المقدمات المنتجة لكل هذا البؤس اليائس؛ فلدى حكّامنا إجاباتهم التي، حال أن نسمعها، نتمنى ألّا يتمادوا في رؤيتنا أغناماً تُسحب للذبح. الذبح على مذبح آلهة السلطة، والمال، والسيطرة: ثلاث كلمات تشير إلى قاتل واحد.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.