هل من رسالة لما يحدُث في جنين؟

الرابط المختصر

في وقت يسيطر فيه وضع سورية، وتغيب شجرة الميلاد في مدينة ميلاد المسيح (بيت لحم)، يصعب للمتابع أن يوفّر أيَّ اهتمام لما يجري في مخيّم جنين، فهناك محاولة للأمن الفلسطيني لفرض سيادته على المخيّم، وسحب الأسلحة من كتيبة جنين، ومن الأشخاص المرتبطين بعدد من الفصائل الفلسطينية، خصوصاً حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.
شاركت قوات الأمن الفلسطينية في حملة قمع نادرة ضدّ المسلّحين المتحصّنين في مخيّم جنين للاجئين في شمال الضفة الغربية. ومن غير الواضح كيف ستنتهي الأمور في هذه الحالة، ولكنّ آثار المعارك سيكون لها تداعيات على مستقبل الضفة الغربية، والحكم المستقبلي للسلطة الفلسطينية في رام الله.
أدلى المسؤول السابق في البنك الدولي، محمّد مصطفى، الذي تلقّى تعليمه في الولايات المتحدة، ويشغل منصب رئيس الوزراء في رام الله، بتصريح نادر في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في أثناء زيارته جنين، فأشاد بالحملة، وحذّر من "أولئك الذين يريدون تدمير البلاد". وقال إن "تعليمات الرئيس محمود عبّاس بتوسيع سيادة القانون تهدف إلى إنقاذ المخيّم وشعب جنين من المعاناة المستمرّة"، وستعمل لاستعادة الأمن في "الطريق نحو إنشاء دولة مستقلّة". وبينما كان مصطفى يتحدّث إلى جانب المحافظ وكبار قادة الأمن، كانت لافتة كبيرة معلّقة خلفه، كُتِب عليها "مؤسّسات جنين ومنظّمات المجتمع المدني تدعم قرار الرئيس عبّاس بهدف تطبيق سيادة القانون والأمن والنظام والسلم الأهلي". وأضاف مصطفى: "كفى استرضاءً ووساطة. لقد وصلنا إلى مرحلة حيث الصمت يعتبر نوعاً من الإهمال، ولا نريد أن نكون من بين المقصّرين".
جاءت الحملة على مخيّم جنين بعدما تحدّث قادة وسكّان محليون عن غياب سيادة القانون والمساءلة مدّةَ عامين، واتهموا الفلسطينيين المسلّحين من المخيّم بالتنمّر على السكّان، وفشلهم في التزام أوامر الحكومة الفلسطينية. وقد كانت جنين فترةً طويلةً بمثابة نقطة اشتعال التوتّر بين قوات الأمن الفلسطينية والفصائل المسلّحة، ولكنّها شهدت تصعيداً كبيراً في ديسمبر/ كانون الأول الجاري، فقد اعتقل أمن السلطة الفلسطينية عضواً بارزاً في كتيبة جنين، وردّ المسلّحون بالاستيلاء على سيّارتَين حكوميَّتَين، الأمر الذي أشعل فتيل مواجهات مباشرة. ومع ذلك، تواصل أجهزة الأمن الفلسطينية مطالبة كتيبة جنين بتسليم أسلحتها كلّها، فيما يرفض أعضاء الكتيبة ذلك، قائلين إن أسلحتها "تستهدف توغل القوات الإسرائيلية وليس السلطة".
جنين هي المحافظة الفلسطينية الوحيدة التي لا مستوطنين أو مستوطنات إسرائيلية فيها، وفيما يقول المسلّحون إنَّ هذا الغياب بسببهم، فإن قيادة رام الله تزعم أن هذا يعني أنه لا حاجة لأفراد مسلّحين يتنافسون مع قوات الأمن الفلسطينية المعتمدة رسمياً. وقد أصرّت قوات الأمن الفلسطينية على أنها ستواصل هذه العملية "حتى النهاية"، ودانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي السلطة الفلسطينية، ووصفتا العملية بأنها "جريمة كاملة الأركان"، كذلك حذّرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من أن قوات الأمن الفلسطينية تتجاوز "خطّاً أحمرَ" بهذه العملية. ومع ذلك، لا يمكن فصل العمليات العسكرية في جنين عما حدث في غزّة في 14 شهراً مضت. إذ يخشى الرئيس محمود عبّاس من أنه إذا تمكّنت الجماعات المسلّحة في الضفة الغربية من بناء قدراتها، فقد تنفّذ هجوماً مشابهاً لهجوم "حماس" في 7 أكتوبر (2023) من الضفّة الغربية، ما يدفع إسرائيل إلى ردّة فعل مدمّرة مماثلة لردّة فعلها في غزّة.
وقد عكست محاولة قمع المقاومين في مخيّم جنين انقساماً أيديولوجياً أكثر خطورةً، إذ يعارض عبّاس "المقاومة المسلحة"، وقد أسقطت الحكومة في رام الله المصطلح رسمياً من برنامجها الحكومي في عام 2007. وفي الوقت نفسه، ترى كلّ من "الجهاد الإسلامي" و"حماس" أن القتال هو السبيل الوحيد لتحقيق التحرير للفلسطينيين، بغض النظر عن التضحيات.
يزعم كثيرون أن قضايا السلام والحرب لا ينبغي أن يقرّرها أيّ طرف، بل ينبغي توجيهها بإجماع الشعب، ورغم أن "حماس" لم تسعَ لمثل هذا الإجماع أو تفز به، فإن عبّاس (لا يحظى بشعبية كبيرة وأرجأ مراراً وتكراراً الانتخابات التي كان من الممكن أن تعطي الشعب الفلسطيني صوتاً) لم يفعل ذلك أيضاً. وفّرت الأزمة في جنين لسلطة رام الله الفرصة لأن تثبت أنها قادرة على عمل أمر غير شعبي لإثبات سلطتها من خلال الأمن، وهو ما قد يساعد في إقناع إسرائيل والمجتمع المدني بأنها الأفضل في تسلّم الأمور الأمنية في غزّة حالما تنسحب منها إسرائيل.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا تزال قوات السلطة الفلسطينية الأمنية تحاصر مخيّم جنين من النواحي كلّها، فيما تحصّن المسلحون في حارة الدمج، وهي ضيّقة ومحدودة، تتردّد السلطة في دخولها كي لا ينتج من ذلك سفك للدماء بين الطرفَين الفلسطينيَّين، ولن يكون في مصلحة أيّ طرف. تصرّ السلطة على أنها ستستمرّ في العمل العسكري إلى غاية بسط سلطتها، فيما يعتقد بعضهم أنها فقدت تأييد الرأي العام بعد مقتل ثلاثة من عناصر كتيبة جنين، ما أثار الغضب في المجتمع المحلّي، وخرجت مظاهرات مؤيّدة للمسلّحين، قمعتها أيضاً قوات أمن سلطة رام الله.
لا يزال الجانب الإسرائيلي يرفض أن يعطي أي دور لقيادة السلطة في حكم غزّة، فهل ما يحدث في جنين سيغيّر رأيه؟ وما رأي الإدارة الأميركية، الحالية بقيادة جو بايدن، والمستقبلية بقيادة دونالد ترامب؟