هشام غصيب

هشام غصيب
الرابط المختصر

 

 

قبل أربعين عاماً بالتمام، عاد هشام غصيب إلى الأردن، حاملاً الدكتوراه في الفيزياء من جامعة ليدز البريطانية، ليبدأ عمله في الجمعية العلمية الملكية باحثاُ ثم مدرساً في جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا منذ تأسيسها. هذا الخيار، الذي يبدو عادياً ومفهوماً لدى مواجهته في حياة إنسان بعقل عادي، لا يمكن إلا أن يلفت الانتباه والاستغراب الشديدين حين مقابلته في حياة إنسان بعقل جبار. وفي الحقيقة، لا أظن شيئاً يبعث على الحيرة كما هذا التفصيل في حياته، لولا الوقائع المفهومة التي تحيط بحياة أبناء المرتبة الثالثة بين بلدان العالم الثالث؛ وهذا بقناعتي حال غصيب، الذي كانت نقطة ضعفه أنه من الأردن، وكان لابدّ أن يعود إلى بيت العائلة في عمان، ويتمسك في البقاء فيه.

 

ما بين السيناريو الإلهي للعقل المتميز، والسيناريو الأردني لإبن العائلة، اختار هشام السيناريو الأردني!

 

بقدر ما إن هذا مؤسف، بالنسبة لي على الأقل، إلا أن الخيار لم يخل من محاسن، رغم أن وجه هذه المحاسن كان مؤسفاً للغاية؛ وهنا، يمكننا أن نتصور غصيب الذي عاد إلى عمّان، وكانت دراسة الفيزياء في بريطانيا قد حولته إلى ماركسي، يجد نفسه يحتك في الأردن باليسار وبحزبه الأول (الشيوعي) فيكتشف أن الماركسية في بلاده، ليست علماً بقدر ما هي مجرد «أيديولوجيا» دوغمائية و«نضال» وصمود تحت ضرب الخيزران!

 

ولا يهم أن الشيوعيين كانوا طوال الوقت يحسبونه مجرد صديق لحزبهم، ولم يفطنوا إلى أنه أكبر وأكثر من ذلك بكثير؛ إنه ماركسي كبير.

 

وتصوروا، كذلك، موقفه حينما اكتشف أن بقاءه في الأردن يقطع صلته بتخصصه، ولا يبقي له من نافذة يطل منها عليه إلا التعليم، بتدريس تلاميذ لن يكون لهم، بدورهم، صلة بتخصصهم، الذي يعلمهم إياه، إلا بتدريس من سيتبعونهم؛ فيكون هو وهم محكومين بأمل أن يأتي زمن يتغير فيه الحال، فتأتي أجيال لاحقة، مالكة لفرصة مواتية في علاقة مباشرة بالتخصص الأثير، الذي يثير العقل، من دون أن تغادر الأردن.

 

إنه الأمل الذي حكم هشام غصيب أربعين عاماً وما يزال!

 

بحكم المهنة التعليمية، أو بمقتضى نوازع أصيلة عنده، لا يراهن على العقول, لكنه يؤمن بالأفكار (العلمية)، وبقدرتها على تربية العقول واستثارتها. وفي المسافة ما بين الأفكار والعقول وقع أستاذ الفيزياء، كأي مغترب عائد على اختلاف، في ألفة مع أقرب الشخصيات التي وجدها قريبة مع نموذجه الذي عاد به، وستظل هذه نقطة ضعف لا تفرض نفسها عليه، بقدر ما يتمسك هو بها، بإصرار.

 

وهذا لا يجعل منه مخطئاً، ولا محقاً: إنها مجرد نقطة ضعف مفهومة.

 

وبالمناسبة، لم يتعرقل عقله الفذ بفعل الواقع الأردني فقط؛ بل كان هناك الواقع العربي، حيث الفكر عموماً منقطع عن العلم، ولا جسور معرفية بين هذا وذاك، باعتبار أن الأول «إلهام روحي» شخصي، والثاني نتاج المسطرة والقلم والمختبر. وكذلك بحكم أن هذا الواقع أنتج طروحات عربية كبيرة، عجولة تتعسف على العلم، وتنحاز لنشوة الفكرة النيئة. ولهذا، فإن كتابات غصيب انقسمت ما بين شرح العلم في صروفه الدقيقة ونقد الفكر العربي المتعسف الذي يقدم نفسه في لبوس علمي.

 

وما كان هذا أفضل ما يمكن أن يفعله، لكنه كان أكثر ما نحتاجه.

 

أربعون عاماً قضاها في التعليم، راضياً ولا يستفزه أن يساويه أصحاب العقول العادية بأنفسهم. وهذه الأربعين هي أعوام استثنائية، تستحق التكريم الشعبي والرسمي، فقد كان معلماً حقيقياً واستثنائياً على مستوى الأردن والعالم العربي، له كل ما للأساتذة الاستثنائيين، الذين يمرون في عمر الشعوب، وعليه كل ما يمكن أن يكون في قلوب التلاميذ من سخط ونقد؛ وميزته الفريدة أنه علّم في كل المدارس؛ النظامية وغير النظامية: بدءاً من الحزبيين الذين انتبهوا معه إلى أن الماركسية هي أولاً علم وليست مجرد «نضال» ودوغما أيديولوجية، مروراً بقراء الصحف والكتب ومنتسبي الأوساط العلمية وتلامذة الجامعات، ورواد المحاضرات والندوات ومحبي النقاشات المرحب بها في أغلب الأحوال، وصولاً إلى مشتركي صفحات التواصل الاجتماعي.

 

وبالطبع، العلم الجبار لا يعترف بالغيبيات إلا باعتبارها وصفة علمية خاضعة للبحث. ومع ذلك، يمكن أن نعثر هنا على غصيب، إلى جانب كل أؤلئك الذين يفكرون بالخلود، ولكنه لا يفكر بفعل ذلك بالتناسل كما هو معهود، بل يقوده إيمانه المادي العميق للتفكير مسحوراً بعملية تحول الكتلة إلى طاقة، وربما إلى تصور الفكرة الحميمة حول تحول الطاقة إلى فكرة؛ وهنا أجدني أحاول دائماً أن أحزر ما الفكرة التي كان يود لو أمكنه أن يستحيل إليها هشام غصيب!

 

الأفكار، لا العقول. ولكن الشخصيات نقطة ضعفه.

 

لا يهم أنه في السياسة يغرق بشبر ماء، وأن النصوص السياسية، التي تفبرك العلم لصالح منطقها الانتهازي، تسحره تماماً، كما آخر النظريات العلمية؛ فهذا بعض انحياز المعلم لتلاميذه. ولكن الأمر المؤسف، الذي يثير بالغ الأسى في نفسي، أنني وغيري لا نجد لنا شيئاً في غصيب ولا منه؛ فهو بقي حريصاً ومنسجماً مع رفقته لعقول ألفها، ولم ينفك عنها، ووطن نفسه على تقبل كل ما يبدر منها من انفكاك عنه، وانزياح عن الحرص العلمي الذي يلزم نفسه به، ويغمض عينيه عنها بينما تتلاعب بالمعرفة، حتى وإن فعلت ذلك لأسباب شخصية خاصة يمقتها هو نفسه.

 

أي، مع انتهاك كل ما يسحرنا في شخصيته.

 

ومع ذلك، فإن للأسى حدوداً، فهناك في مكان ما، يقدم غصيب نفسه خالصاً، في صيغة مشاع عام، متحرراً من الانحيازات الشخصية التي تتملكه؛ دقيقاً وثابتاً وصريحاً لا يتحول تحت وطأة عواطف، ولا يمالئ بفعل حرج. وهذا ما قدمته الكتابة لنا من د.هشام، وهذا أيضاً ما منحته الكتابة د.هشام من صلة بالصرامة العلمية والدقة التي تربطه بتخصصه الدقيق.

 

وباختصار، أجدني في عجلة من أمري، عليّ أن أحيي الأستاذ هشام، لأنصرف سريعاً إلى قراءة د. غصيب!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.
أضف تعليقك