هشام البستاني.. عن راهنية المادية الجدلية

في وقت لا تزال تشهد ثقافات عديدة مراجعات جديدة للماركسية وإعادة قراءة في مقولاتها، تكاد تغيب هذه الاشتغالات في الثقافة العربية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، بل يمكن القول إن الأدبيات التي قدّمها معظم الشيوعيين العرب قبل ذلك لم تخرج معظمها عن النسخة البلشفية.

ملاحظة أخرى جديرة بالدراسة تتصل بذهاب العديد من الباحثين حول العالم إلى الاسترشاد بالماركسية من أجل بحث العديد من الظواهر والمسائل الراهنة ذات الصلة بتغيّرات سوق العمل المتسارعة أو بالثورة التكنولوجية أو بنزعات مجتمع الاستهلاك، ويخلصون إلى ملاحظات ومعاينات لافتة.

في هذا السياق، استضاف "صالون جدل" في عمّان مساء الأربعاء الماضي الكاتب والناشط الأردني هشام البستاني في جلسة حواريّة تفاعليّة بعنوان "ما هي فلسفة الماديّة الجدليّة؟" طرح خلالها تساؤلات عدّة منها: كيف نفهم العالم من حولنا؟ هل هو مترابط أو أنه يتكوّن من عناصر منفصلة عن بعضها؟ ما هي القوانين التي تحكم الوجود وحركته؟

يقارب المحاضر الماديّة الجدليّة باعتبارها "النسق الفلسفي الأكثر قدرة على توليد الإجابات وبيان العلاقات في عالمنا المعاصر"، موضّحاً أن "راهنيّتها وضرورتها تنبعان من أن الشكل الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي الذي جاءت في سياقه ما زال قائماً وتتكاثر مصائبه، وهنا أقصد الرأسماليّة، ونزوعها الكارثيّ إلى جني الأرباح دون أي اعتبار لا للإنسان ولا للحيوان ولا للموارد الطبيعية ولا للكوكب نفسه، وأشكال "ثقافتها" التسليعيّة الاستهلاكيّة، والشكل الوجوديّ الذي ترعاه وتعزّزه وتعيد إنتاجه لدفع الاستهلاك: الفرديّة والأنانيّة".

يشير البستاني في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أنه "من جانب، تقودنا الماديّة الجدليّة لفهم الظواهر، وفهم العلاقات، تنقلنا من الفهم السطحي، إلى الفهم العميق، من الفهم الذاتيّ (الانطباعيّ، الشعوريّ) إلى الفهم الموضوعيّ (العلميّ، المنبثق من العالم والتجربة والقياس). إنها أداة تنقذنا من ابتذال العالم المعاصر وابتعاده عن التفكير وإعمال العقل مع صعود التسلية والابتسار والاختصار والمقولات الدوغمائية الشعبويّة باعتبارها مقولات معرفيّة".

 

ومن الجانب الآخر، فإن الماديّة الجدلية، بحسب البستاني، تسحبنا "من فخ التفكير المثاليّ واسع الانتشار اليوم في الدعاية اليومية للرأسماليّة: أن تغيير العالم يبدأ من الذات (لا من الموضوع)، من الفرد (لا من العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية وعلاقات القوّة)، وأن تغيير العالم يبدأ من تغيير الفرد أفكاره عن العالم، وانتقاله من حالة التفكير السلبي، إلى التفكير الإيجابيّ، وأن التفكير الإيجابي قادر على تغيير العالم".

يشدّد البستاني على أن هذا النوع من التفكير "مصيبة جهدت العلوم والفلسفة طويلاً لتجاوزها، لنراها تعود اليوم كدعاية أساسية للرأسمالية، تقي بها نفسها من أي تهديد يعيد الفعل إلى الجماعة (لا إلى الفرد)، ويضع الفعل التغييري في مواجهة الواقع الموضوعي، منتزعاً إياه من عالم الأفكار الذاتيّة".

ويرى أن "أهميّة الماديّة الجدليّة اليوم، وخطورتها: أنها أداة فهم وتحليل للعلاقات، تفهم التغيير كعمليّة جماعيّة (طبقيّة)، في مواجهة الواقع وعلاقات القوّة فيه (لا في مواجهة الذات الأنانيّة)، وتؤشر إلى الأزمات المستمرّة التي تولّدها الرأسمالية من تفاقم الفقر، والاتساع الهائل في الفجوة بين الأقلية الثرية جدّاً، والأغلبية الكاسحة الفقيرة، وانقراض الأصناف الحيوانيّة والنباتية نتيجة الاستغلال الهائل للموارد الطبيعية المحدودة لدعم ضخ المزيد من السلع في السوق، وصولاً إلى الاحتباس الحراري ودمار الكوكب القادم بتسارع، إن لم نسارع إلى مواجهة الرأسمالية نفسها".

حول طبيعة المتلقّي لهذه المحاضرات، يلفت صاحب "أرى المعنى" إلى أن "هذا الجمهور (الذي لا يعرف ما هي الماركسية/ الماديّة الجدليّة)، ويغيب في أوهام الفردانيّة والمثاليّة والاستهلاك، ولا سبيل ممهّداً له للوصول إلى الأدوات المنهجيّة والعلميّة والفلسفيّة لقراءة العالم، هو بالضبط الجمهور الذي يجب الوصول إليه والنقاش معه حول هذه المسائل".

وينوّه إلى أن "وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة جرّت كارثة على إمكانيّات التركيز والمتابعة التي انخفضت إلى حدّ كبير، وهي تستثير المراكز الحسيّة بما يجعل من المحاضرة المعرفيّة والكتاب الفلسفيّ غير "مسلية" ولا "مثيرة" بما يكفي، لذا من الضروري استعادة التواصل مع الجمهور العاديّ".

المعضلة التي يجب تجاوزها هنا، وفق صاحب "الفوضى الرّتيبة للوجود"، هي الانتقال من المادة المعرفية الجامدة، إلى نماذج تطبيقية لتقريب الفهم وفتح الباب أمام نقاش أكثر سلاسة، وتحويل الفلسفة من مقولات، إلى تطبيقات، وهذا مع حاولت فعله في هذه المحاضرة، بل وفي كتاباتي المطوّلة التي أحاول من خلالها تطبيق المعرفة على المواضيع اليوميّة، أو لنقل: تحويل اليوميّ إلى معرفيّ.

حول سؤاله إن كانت هذه اللقاءات تمثّل حلقة للدرس والنقاش حول الماركسية، وحتى الفلسفة، وعلاقتها باليومي والتي تبدو شبه غائبة في الثقافة العربية؟ يجيب البستاني: "بشكل ما نعم. لم يعد هناك من حلقات يجتمع فيها المهتمون والجمهور لنقاش الأمور المعرفية. المعارف والفلسفة تتطوّر بطريقين: احتكاكها المستمر والمتفاعل والمتجادل مع الواقع ومتغيّراته، ومحاولتها تطوير نفسها من خلال اشتقاق الإجابات والبدائل من خلال هذا الاحتكاك والتفاعل، وأيضاً من خلال الاحتكاك والتفاعل مع الأفكار الأخرى، والقراءات والتطبيقات المتعددة لهذه الأفكار".

ويبيّن بأن "الحالة الأولى موجودة، فعالمنا العربيّ والعالم بالمجمل يزخر بالأحداث والتحوّلات التي تتطلّب محاولة الفهم والرّبط والتحليل والتشخيص واشتقاق أدوات التغيير، أما الحالة الثانية فهي في فقر مدقع، وقد تكون مثل هذه اللقاءات مدخلاً لعودة النقاش".

يختم البستاني حديثه بالقول إن "الجيل الشاب أكثر اطلاعاً بمعنى ما، ومنفتح على الكثير من الأفكار، والتابوهات والتحفّظات عنده نتيجة لذلك أقل، وملاحظاته وأسئلته أذكى، لكن يبقى أن المساحات المناسبة لهذا التبادل غائبة". 

العربي الجديد

أضف تعليقك