يبدو القول بوجود صلة بين الماركسية والاستعمار ضربا من الادّعاء الهادف إلى التعريض بالماركسية، باعتبارها فلسفة إنسانية عميقة الجذور، ولكن ليس لهذه الغاية أكتب هذه المقالة، فقد ثبت جدوى التحليل الماركسي لكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية، غير أن هذا لا يعفي الماركسية من التورط في أحكام متصلة بفلسفة التاريخ تنتهي بتسويغ الظاهرة الاستعمارية، ولهذا مثال صريح عند قطبيها الكبيرين: ماركس وإنجلز، في موقفيهما من التورط البريطاني في الهند، والفرنسي في الجزائر، وأعزو ذلك إلى تأثير المركزية الغربية في صوغ وعي هذين الفيلسوفين من العالمين الشرقي والإفريقي، وهو صوغ لا يكاد يبرأ منه مفكّر غربي خلال القرن التاسع عشر.
ويحسن أن أبدا بتمهيد الموضوع بموقف هيغل من الهند التي رآها لوحة رومانسية ملتبسة المكونات وغير واعية بذاتها، فهي مثال السكون والجمود المقدَّر له أن يظلّ على حالة لا تغيير فيها، وكأنّها لوحة منتزعة من المشهد العام لغياب الوعي البشري؛ فالهند «بلد الشوق والحنين، لا تزال تبدو أمامنا بوصفها مملكة العجائب، عالَما ساحرا جذابا». تعيش الهند حسب هيغل حالة حلم متصلة، ويصعب الحديث فيها عن حرية أخلاقية باطنية؛ فالتميُّزات السائدة هي فقط تلك الخاصة بالأعمال والطبقات، بسبب ما يصطلح عليه بـ«الطبقات المقفلة»، التي لا توفِّر أية إمكانية لتحقيق أيّ نوع من الحرية الذاتية. وهذا يؤدي إلى أنَّ الوضع الأخلاقي عند الهنود من «أكثر الأوضاع انحطاطا وفسادا»، فـ«الخداع والمَكر هما الخاصيتان الأساسيتان للرجل الهندي، فالغِش والسرقة والسلب والاغتيال، هي بالنسبة إليه أمور عادية مألوفة تكمُن في عاداته وأعرافه». وعلى هذا، تُظهِرُ التقارير الإنجليزية، التي يعتمد عليها هيغل، الهنودَ على أنّهم «طماعون، مخادعون، شهوانيون».
ولا يتفرَّد هيغل في ذلك، إنّما ينتظم في هذه الرؤية مفكِّرون آخرون؛ فقد كتب ماركس، في منتصف القرن التاسع عشر، عن الهند مستعيدا ماهية الرؤية الهيغلية، وإذا كان سلفه يرى أن العقل الغربي هو القادر على اختراق سكون الآخر، فإنَّ ماركس يرى في التورُّط الإنجليزي في الهند «أداة تاريخية» لتغيير البنيات الاجتماعية المغلقة في ذلك الشرق الغاطس في الظلم والاستبداد. ومع أنّ ذلك التغيُّر قد يسبِّب انكسارات وجروحا، فإنَّ مسار التقدُّم واطّراده وحتميته يفرض أن تتهدَّم التشكيلات المعيقة لذلك التقدُّم، لينطلق العالَم في مساره الصاعد دون عثرات. يقول ماركس: «مهما تكن رؤية هذه التنظيمات الاجتماعية البطريركية النشيطة والمسالِمة جارحةً للشعور الإنساني، وهي تتفكَّك وتنحلُّ إلى عناصرها الحركية، ويُلقى بها إلى بحر من الآلام والعذابات، بينما أعضاؤها الفرادى يفقدون في الوقت نفسه شكل حضارتهم القديم، ووسائط معيشتهم، فإنّه يجب أن لا ننسى أن هذه المجموعات القروية الرعوية، رغم مظهرها المسالِم وغير المؤذي، قد كانت على الدوام الأساس المتين الذي ينهض عليه الطغيان الشرقي، وأنها حصرت الذهن البشري ضمن أضيق نِطاق ممكن، محوِّلة إياه إلى تلك الأداة الليِّنة للتطيُّر، مستعبدة إياه لقواعد تقليدية معترَف بها، حارمة إياه من كل عظَمة ومن جميع الطاقات التاريخية...صحيح أنَّ دوافع إنكلترا، حين فجَّرت الثورة الاجتماعية في الهند، لم تكن سوى أحط المصالح وأسفهها، ولكن ذلك ليس بيت القصيد. إنَّ بيت القصيد هو ما إذا كان في مقدور الجنس البشري أن يحقِّق مصيره دون ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية السائدة في آسيا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فقد كانت إنكلترا، كائنةً ما كانت جرائمها، الأداة غير الواعية التي استخـدمها التاريـخ في إحداث تلك الثورة».
ينطوي نَصّ ماركس على مقاصد مزدوجة، فهو يختزل الحقيقة التاريخية ويطمس أهميتها في سبيل إثبات صحة التصوُّر النظري العام؛ فهو ينطلق من الفكرة التي أشاعها منهج الوحدة والاستمرارية القائلة بغائية التاريخ واطراده، وبما أنَّ ماركس يؤمن بمضمون تلك الفكرة، وتعد فلسفته أكثر تجلياتها وضوحا في تفسير حركة التاريخ والمجتمع من مرحلة معينة إلى نهاية محددة، فإنّه سيسوغ أي فِعل يُسهِم في تحقيق تلك الفكرة. إنّه يتَّفق مع هيغل على سكونية العالَم الهندي وثباته، ويشاركه أنه بحاجة إلى أن يُخترق لبَث الحيوية فيه، واستبعاد النسيج الحلمي الذي يسبح فيه. ويرى أنَّ السبيل الوحيدة لتهديم تشكيلة السكون هو «ثورة اجتماعية». ولما كان السكون استبدَّ بالهند، فإنَّ دخول قِوى استعمارية أجنبية مثل إنكلترا يُعَدّ عملا مسوغا، باعتباره آلة تدشّن الطريق للمسار الغائي الذي يسلكه التاريخ. وبما أنَّ أي تدخُّل سيحدث تغيُّرات مؤلمة وجارحة للشعور، فإنَّه لا بد من قبول هذه التضحية الصغيرة من أجل تحقيق الهدف الأكبر للبشرية، وهو إزالة أحد عوائق تقدُّمها والتسريع في تحقيق التقدُّم المنشود، فكلّ فِعل طارئ، كالجرائم الإنجليزية، والمصالح المنحطَّة، يُغتفر إزاء الوصول إلى هدف نبيل. ماركس يوارب في خطابه، فهو يسعى لامتصاص النقمة المنتظَرة التي سيثيرها، وذلك من خلال تصوير الآلام الناتجة عن التدخُّل الإنجليزي في الهند، قبل أن يعلن أنّ ذلك جزء من هدف تاريخي سامٍ، والنتيجة أنه لا بد من تهديم النَّسق الثقافي والاجتماعي، الذي يحول دون اطراد التاريخ، بمعولٍ إنجليزي.
ومن المفيد أن أردف نَصّ ماركس بنَص لرفيق دربه إنجلز، ويظهر التماثُل بينهما، حيث إنَّ كلاًّ منها يطابق الآخر غاية المطابقة، وكأنّهما يصدران عن كاتب واحد، ولا يختلفان إلا في أنَّ الأول يكتب عن الاحتلال الإنجليزي للهند، فيما يكتب الثاني عن الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد كُتِبا ذلك في حقبة واحدة من تطوُّر الفكر الماركسي (كتب نَص ماركس عن الهند في عام 1853، وكُتِب نَص إنجلز حول الجزائر في عام 1847). يقول إنجلز: «إنَّ فَتح الجزائر واقعة مهمة وموائمة لتقدُّم الحضارة، وما كانت قرصنات الدول البربرية لتتوقف إلا بفتح تلك الدول (= الجزائر). وبعد كلّ حساب إنَّ البرجوازي المعاصر، مع الحضارة والصناعة والنظام والأنوار التي يحملها على كلّ حال، لأفضل من الولي الإقطاعي، أو اللصّ قاطع الطريق ومن الطور الهمجي في المجتمع الذي ينتميان إليه».
تحليل نصَّي ماركس وإنجلز حول الهند والجزائر يكشف أنهما يُرجعان للرجل الأبيض، الذي يمثله في الحالة الأولى الإنجليزي، وفي الحالة الثانية الفرنسي، مهمّة نشر الحضارة وإحداث الثورة المنتظرة، وأنّهما، في المقابل، يختزلان الهند والجزائر إلى طورين تاريخيَّين بدائيَّين معارضيْن بأنساقهما الثقافية والاجتماعية (=التنظيمات الاجتماعية البطريركية القروية الرعوية في الهند، والولي الإقطاعي، واللص قاطع الطريق في الجزائر) لحتمية التطوُّر والتقدُّم. وفي ضوء ذلك يُسوِّغ أيُّ عمل، حتى ولو كان احتلالا استعماريا، فالقضاءَ على تلك الأنساق المغلقة يقتضيه تقدُّم الحضارة. نريد من كلّ هذا تأكيد أنَّ كثيرا من المفكِّرين، الذين يُدرجون عادة على أنّهم «أصحاب فلسفات إنسانية عظيمة» لم ينجوا من المواقف المتعصِّبة، ونظروا إلى الشرق من منظورات استشراقية، أنتجت الشرق على أنه عالَم ثابت ونمطي.
البراهين النصيّة الماركسية حول الشرق لا تترك مجالا للاجتهاد في هذا الموضوع، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تلك النصوص تندرج في سياق منظور فِكري - فلسفي يسعى إلى تقديم تفسير لموضوع تاريخي خاص بقانون الحتمية التاريخية، وهو القانون الذي يحكم الفلسفة الهيغلية والماركسية على السواء، إلا أنّ الآثار المترتِّبة على الاختزال الذي ينتج عن تلك التحليلات سيجعلها تندرج في صلب الفكر المتمركِز حول نفسه. وماركس كان له أكثر من موقف في موضوع الشرق، وفي كلّ تلك المواقف كان يصدر عن رؤية تفترض ثنائية متناقضة: شرق خامل وتقليدي وغرب حيوي وثائر، الأول طوَّر منظومة بنى وقيَم تحول دون أن تنتظم الإنسانية في مسارها الحتمي، والثاني طور منظومة بنى وقيَم تدفع بالإنسانية إلى ذلك المسار. ومعلوم أن ماركس عَدَّ القسطنطينية (إسطنبول) الحَد الفاصل بين العالم الشرقي والعالم الغربي؛ أي إنها «الجسر الذهبي المنصوب بين الشرق والغرب». وصرح بأن بقاءها عاصمة للدولة العثمانية، يعني بقاء الاستبداد، واستسلامها يعني فتح الطريق أمام الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي رآها «كالشمس لا تستطيع أن تستكمل دورتها حول العالَم دون أن تمرّ في هذه النقطة» كما انتهى غويتسولو إلى ذلك.