مناطحة التاريخ

مناطحة التاريخ
الرابط المختصر

 

من جديد تعود داعش لتؤكد عداءها للماضي وحقدها على التاريخ. من جديد تكرر محاولاتها حذف "كلّ ماكان" لصالح الحاضر الذي تتحرك فيه، واهمةً أنها تتسيده وتتحكم بمساره ومصيره عبر حضورها الدموي الزاعق في المشهد "الذي يتكوّن" بوسائل الميديا التي تتقن آخر تطويراتها، ومن خلال سطوة الصورة الناغلة في حياتنا المعاصرة. غير أنّ الفارق الجوهري بين "ما كان/ الماضي/ التاريخ" والداعش "الذي يتكوّن/ الحاضر المشوّه غيرالمكتمل"، هو أنّ الأوّل اتسم بالبناء والتشييد والبقاء رغم عواتي الزمن وتقلباته، والثاني أكسبَ نفسه بنفسه صفة الهدم التحطيم  والإزالة. وهذا الفارق في ذاته يعنيإشكالاً وجودياً يستحق التأمل. إشكالاً يتناول الهُوية، ومبررات وجودها، وأصل نشوئها.

 

 

قبل ثلاثة أيام عملت داعش على تجريف آثار مدينة "نمرود" في العراق، العائدة للحضارة الآشورية، الشاهدة على حضور الإنسان الفاعل، الباني، الإيجابي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد! أي: قبل ثلاثة وثلاثين قرناً! أي: قبل ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة! انقضى هذا الزمن المديد وظلّت الشهادة رغماً عنه، وظلّت البحوث المستمرة والدراسات المتتابعة تؤكد الوجود اكثر فأكثر. فما كان واصَلَ حضوره الماديّ.. ولو بما بقي من آثارٍ قيد الإمساك والتعيين المباشر. ما كان واصلَ حضوره البيولوجيّ في خلايا السلالات البشريّة المتوالية على أرض الرافدين ولم يتعرض للفناء بقدر ما انسجم مع منطق "التحوّل"؛ منطق القبول بالاختلاط الخلّاق والرضا بالتمازج التوليدي لكل ما هو حضاري، وتشييدي، وبالتالي لكل معاني الإنسانية الصاعدة باتجاه الأعلى.

 

 

تجريف الأثر المادي للآخرين على الأرض ليس سوى فعلاً بائساً ليأسِ فاعله من جدواه هو! أو من معناهفي التاريخ! كما أنه (فعل التجريف) إحدى الإشارات المخاتلة التي لا يعيها فاعلُها،والتي تدلّ على وَهَن هويته، غير الواثقة من رسوخها، والحائرة حيال سؤال الموقع الذي ستؤول إليه في نهاية المطاف.

 

*   *   *

 

أين ستكون داعش في نهاية المطاف؟

ما هي داعش في أوّل المطاف ليتسنّى لنا الإجابة عن سؤال نهايتها؟

 

* بعضٌ يرى أنها صنيعة الولايات المتحدة وأداتها في تفتيت المنطقة لإدامة ارتهانها لها. وثمة وجاهة في هذه الرؤية، حيث يمكن لأي متابع أن يلحظ التباطؤ المتعمد في ضربها لها لإطالة عمرها والاستفادة من وجودها قدر الإمكان وبقدر المصلحة الأميركية.

 

* بعضٌ آخر يحفر ليقرأ أنها النتاج الحتمي للنصوص التكفيرية المتطرفة، الواردة في كتب التراث، التي لاترى في كل مغاير لها إلّا كياناً وجب محاربته وقتله وإبطال وجوده. وثمة قدر كبير من الصحة في هذه القراءة، فإزالة كل ما يشير إلى المغايرين من بَشَرٍ وحَجَر (تفاصيل الموصل والمسيحيين والأزيديين ومتحف نينوى و"نمرود" الآن) أكثر من مصادقة على هذا.

 

* بعضٌ ثالث لا يهمل المناخات السياسية والاقتصادية والمعيشية التي أدّت إلى إذلال الإنسان في الدول العربية، وحطَّت من قيمته في كونه "مواطناً كريماً" - إذ وضعته على هامش الحياة؛ وبذلك وفرَّت الحافز القوي لتوليد داعش وتزويدها بـ"المصادر البشرية". وثمة صوابٌ لا يقبل المجادلة في هذا الرأي.

 

* بعضٌ رابع لا يستبعد أنها، بوعيٍ منها أو بدونه، إنما تخدم "إسرائيل" حين تتحوّل لتصبح "المشكلة الأولى" للمنطقة العربية حيث ينبغي الانصراف لإيجاد الحلول لها وبذل الوقت والمال والجهد؛ وبذلك ينسحب الكيان الصهيوني من جدول الاهتمامات، وينطفئ تدريجياً في الذاكرة العربية، بينما يتابع قضمه لفلسطين كي لا يتبقى منها سوى "سلطة" لا سلطة لها. وهذا أيضاً منطقيّ ويإمكان أيّ كان الموافقة عليه.

 

.. تلك الأبعاد التي تتلبس داعش، حين تلتقي لتفترق أو لمّا تفترق لتلتقي، لا يتسنّى للمتأمل فيها إلّا أن يستدعي سؤال نهاية المطاف.

 

 

لكن سؤال نهاية المطاف هذا ليس معزولاً عن أجابات أوّل المطاف: إجابات الهوية المتأرجحة بين صاحبها العَدَميّ وضحاياه الموزعين في الاتجاهات الأربعة: في جميع الاتجاهات.

مهما كانت إجاباتنا، على تنوعها واختلافاتها، هنالك حقيقة لم تُدحَض يوماً، ولن يكون بوسع داعش دحضها. حقيقة تقول: مَن يناطح التاريخ ينطحه التاريخ ويطرده خارجه.

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
ينشر موقع عمّان نت التعليقات بما لا يتنافى مع سياسته التحريرية