مصائر "الآلهة"

مصائر "الآلهة"
الرابط المختصر

من أخبار العرب قبل الإسلام أنَّ قبائلهم، على امتداد الجزيرة وما بعدها، كانت تحتفظ لنفسها بآلهةٍ تخصُّها دون غيرها. وأنَّ بعض تلك الآلهة/ الأصنام اعتادت أن تشترك في عبادته أكثر من قبيلة. ولقد بلغ عدد الآلهة حوالي عشرين، من بينها: اللات، وهُبَل، ومناة، والعزى، وطاغوت، وذو الشرى، وودّ، وإساف، ونسر، إلخ.

الغريب في ما نُقِلَ عن تلك الفترة وعباداتها، حكايةُ أنَّهم، بالإضافة إلى نحتهم تلك الآلهة/ الأصنام في الحجر، قد شكلوها وأقاموها من التمر! وأنهم، إذا ما جاعوا، يأكلونها! هكذا ببساطة. قَومٌ يجسدون إلهاً من التمر يسجدون له، ثم بعد وقت يزيلونه تماماً بالتهامه والتغذي عليه.

ربما تكون هذه الحكاية المنقولة حقيقية، وربما لا تعدو مجرد اختلاق مبالِغ غايته التندُّر على اختلال عقل القوم وخِفته والسخرية منهم. لكن، بصرف النظر عمّا تُخفيه ثنايا التاريخ غير المفضوضة أو المُتاحة بعد (وهي كثيرة جداً)، إلّا أنَّ بإمكان المرء إجراء قراءة تأويليّة لهذه الحكاية، وإدخالها في سياق تاريخيّ آخر لفهم مسألة بعينها: مسألة خلق الإنسان "لآلهةٍ" يرفعها إلى مستوى التقدير العالي والقداسة، ثم لا يلبث، بعد وقت، أن يحطّمها وينتهي منها. "آلهة" لا تنحصر في تجسيم مخلوقات متخيلة تُنحَت أو تُرسَم، بل أيضاً في أشخاص واقعيين بعينهم، وأفكار دون سواها، وانحيازات جماعية شتّى بالتعصُّب لها.

هنا يبدأ مفهوم "التأليه" بالتحوُّل ليصبحَ أرضيَّاً متحركاً ليشمل، صراحةً، كافة أوجه الحياة الواقعية المحسوسة بكلّ ما يتضمن من أبعاد بَشَريَّة. يتحوَّل من المُطلق إلى النِسبيّ. يتحوَّل من "التابو" المرفوع عالياً ليوضَع على مشرحة التساؤلات، تحت أعين البَشَر وفي متناول عقولهم. فما كان عالياً يتحلّى بالقداسة أو المهابة ذات يوم عند شعب، نراه، في سياق شروط إنسانية/ اجتماعية مغايرة، مطالَبٌ بالتنحي، بالذهاب، بالزوال ومغادرة المشهد. ومَن كانت الجماهير تهتف له وترفعه على أكتافها ليعلو فوق رؤوسها، إذ به يصبح هدفاً لجيلٍ جديد يكتسح الشوارع رافعاً صوته مطالباً بالتخلّص منه ومما يمثِّل.

أهو "الخطأ" في المعبود/ المؤلَّه/ المرفوع/ ذو القداسة والمهابة/ "التابو"، أم في البَشَر وتقديراتهم وتقييماتهم، أم في منطق ما في تاريخ الشعوب وسِيَر الأشخاص يمكن للواحد مِنَّا أن يقترب منه على النحو التالي: "ما يجترحه إنسانُ اليوم هو، نفسه، ما سيلغيه إنسانُ الغد ليستبدله بشيء آخر، ثم آخر، إلى ما لا نهاية."

إذَن: نحن حيال مبدأ التغيُّر، أو قانون الخَلْق البَشَري المتجدد.

*   *   *

لم يتنكَّر الشعب البريطاني أو يجحد بكلّ ما قدّمه ونستون تشرشل له ولبريطانيا في صمودها، إبان الحرب العالمية الثانية، ولم يُنكِر عليه دوره السياسي المهم في هزيمة النازيّة. لقد أشهره بطلاً بكل المقاييس. ومع ذلك، كان أنْ أدار له ظهره وخذله ليصَوَّت لحزبه الخصم في أوّل انتخابات بعد الحرب فيدخله، على الفور، في ظلال البرودة والإعتام التدريجي.

كيف نفسِّر هذا ونفهمه؟

وكذلك، لم يتأخر الفرنسيون لحظةً واحدة في استقبال الجنرال شارل ديغول بطلاً يخطو في باريس المحررة تحت قوس النصر، ورمزاً لفرنسا المقاومة أوّلاً، ثم رئيساً للجمهورية نِدَّاً مناكفاً مقاوماً للحليف الأميركي الذي حاول "تطويع" إرادة الشعب الفرنسي وسياسة دولته "المستقلة" طوال أكثر من عقد ونيِّف بعد الحرب. رأى الفرنسيون في ديغول تجسيداً لـ"كرامة" فرنسا، لكنهم، بعد وقت (1968)، خرجوا للشوارع وتحت قوس النصر ذاته، يطالبونه بالانزواء، ففعلَ الجنرال العجوز صاغراً.

كيف نفسِّر هذا ونفهمه؟

وفي روسيا، برزت شخصية فلاديمير إيليتش لينين منذ ثورتها الشيوعية عام 1917، مفكراً مناضلاً مُجهزاً على الامبراطورية القيصريَّة ومؤسساً لدولة الاتحاد السوفياتي. عاش الشعب الروسي عقوداً يزور ضريح لينين في جدار "الكرملين" في مراسم أشبه بـ"الحجيج" الملفوف بهيبة دخول "قدس الأقداس"، غير أنّ هذا الشعب نفسه، وربما عدد كبير من أفراد ذاك الجيل، كان أن قام بـ"إنزال" تماثيله الموزعة في أنحاء بلدان الاتحاد السوفياتي السابق عن قواعدها العالية، وإلقائها في مساحات الإهمال. ولنا أن نتخيَّل مصير تلك التماثيل البرونزيّة المصبوبة، وإلى ماذا آل معدنها الآن.

كيف نفسِّر هذا ونفهمه؟

أهو الجحود، أم خضوع البَشَريّ لمبدأ إعادة النظر في اختلاقاته حين تتغيَّر شروط عيشه، ما تتطلب منه، بالتالي وحتماً، خلع "مقدسه" السابق فيرسم "مقدساً" جديداً يهتدي به؟ أو، ربما، ليصبَّ فيه متخيله غير المتحقق بعد؟ أو عَلَّه دائم البحث عن علامة تشفي غليل سؤالٍ ليس من إجابة قاطعة عنه؟

يصنعُ معبوداً يسجد له، ينتظر شفاءً مُرتجى، يُصاب بالخيبة، يحطِّم المعبود– أو يلتهمه، آملاً في "آخر" أكثر جدوى ذات يوم.

هي مسألة تستحق التأمل. أليس كذلك؟

 

كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك