أهم ما ورد في خطبة العرش التي ألقاها جلالة الملك أمس ايذانا بافتتاح الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة العشرين استخدامه لتوصيف جديد لمدينة القدس المقدسة واصفا إياها بـ"قدس العروبة "، وهو توصيف غير مسبوق يدخل للمرة الأولى في معجم الخطاب السياسي الملكي.
ولست هنا بصدد الإفاضة في توضيح مفهوم"العروبة " وسياقاتها وعلائقها المتشابكة بين توصيفات متعددة على نحو "العرب"، و "القومية العربية "...الخ، لكني يكفيني التأشير الى أن مفهوم "العروبة" الذي استخدمه جلالته في خطابه يذهب الى ما هو أبعد من ذلك، فقصدية "العروبة " تتسع لتشمل الثقافي، والفكري، والأخلاقي، والسلوكي، والإجتماعي، والرابط الروحي، بما يقود الى ما هو أبعد من توصيف " القومي "، أو حتى "الديني" أو " المذهبي ". .
ولا أظن بالمطلق أن جلالته استخدم هذا التوصيف تكلفا واعتباطا، وإنما أراده بكل معانيه ومضامينه التي تتسع وتتشعب لتشمل كل من له وشيجة وصل او اتصال بالثقافة العربية وبما يتعدى المفهوم الكلاسيكي لمعنى العرب والعربي والقومية العربية...الخ.
ولربما عنى جلالته باستخدامه هذا التوصيف كل من قبل بالثقافة العربية بغض النظر عن دينه وجنسيته وعرقه ومذهبه العقدي، مستثنيا بذلك من قبل الإسلام دينا ورفض العرب والعربية ثقافة وفكرا.
فــ"قدس العروبة "في فكر جلالته هنا أوسع مدى وأدق دلالة لتعرف من هو العربي الذي يتوجب عليه أن يكون"عروبيا " فكرا وسياسة ومذهبا وهوية، وهنا تصبح القدس بقدسيتها أكبر من أن تحيط بها قومية، او عرقية، أو حتى مذهبية دينية.
قال جلالته بوضوح " وستبقى قدس العروبة أولوية أردنية هاشمية، وسنواصل الدفاع عن مقدساتها والحفاظ عليها، استنادا إلى الوصاية الهاشمية، التي نؤديها بشرف وأمانة " ، وهذا تأكيد للمؤكد، ورد واضح على بعض الدعوات التي تنطح بعض الكتاب للدعوة الى تحوصل الأردنيين حول أنفسهم، وأن لا علاقة للأردن بما يجري خارج حدوده، متناسين في الوقت نفسه أن الأردن منذ تشكيله إمارة سنة 1921 بني هويته الوطنية على أساس"عروبي" ولا يستطيع العيش والإستمرار إن أدار ظهره لهذه الهوية الجامعة.
ولربما هذا ما عناه جلالته في خطبته حين عاد ليؤكد على أن الأردن "دولة راسخة الهوية، لا تغامر في مستقبلها وتحافظ على إرثها الهاشمي وانتمائها العربي والإنساني، فمستقبل الأردن لن يكون خاضعا لسياسات لا تلبي مصالحه أو تخرج عن مبادئه (...) وسيبقى الأردن عظيما وطنا طيبا مباركا بأهله وأرضه... ووجها عربيا صادقا..).
إن ( الهاشمية ) بمفهومها السياسي والعقدي تستند الى "العروبة " بكل تجلياتها الهوياتية ، ولا يمكن حصرها في حدود ضيقة إلى أبعد حدود الضيق ــ كما يريدها البعض ــ، بل يريد جلالته لها أن تتسع لتشمل فضاءا أوسع من تلك الدعوات التي تريد حصر "الأردن " في جغرافيا الذات وبما يتعارض بالمطلق مع الهوية العروبية للأردن الذي ولد من رحمها، وبنى نفسه بموجبها ووفقا لمحدداتها.
اليوم ربما يكون مناسبا لترسيخ مباديء (الهاشمية ) في إطارها الموضوعي والكياني والتاريخي، فقد آن الأوان لمغادرة مرحلة "التوصيفات " والإكتفاء برفع الرايات إلى بناء الذات الوطنية على مباديء الفكر "الهاشمي " وتجلياته الفكرية والثقافية، وبذلك يتواصل الأواخر بالبناة الأوائل.