"مزاد 308"

"مزاد 308"
الرابط المختصر

في الوقت الذي تقيس الأمم درجة تحضرها وسموها الأخلاقي بمدى تطور منظومة تشريعاتها التي تعكس ذلك التحضر والسمو أو تعزز منهما، يأبى مجموعة من المتحوصلين الأموات وهم أحياء –كما وصفهم ابن خلدون- إلا أن يضعوا المجتمع بأكمله في مزاد علني رخيص؛ السلعة المعروضة فيه أبيّة على الاتجار بها ومزايدة عليها.

صدرت الإرادة الملكية السامية منذ شهور بتشكيل لجنة رفيعة المستوى لمراجعة التشريعات الناظمة للقضاء بشقيه الموضوعي والإجرائي في إعلان قطعي الدلالة على نية الدولة وتوجهها إلى النهوض بالقضاء وتعزيز مبدأ سيادة القانون وإلغاء كلّ ما من شأنه المساس بهذا المبدأ من عادات وتقاليد وآراء شخصية مهترأة أكل عليها الدهر وشرب، ليطل شبح "التقاليد والوصمة والعادات والمجتمعات المحافظة..."” برأسه من تحت قبة مجلس الأمة معلناً عن بقائه على قيد الحياة واحتفاظه بقواه المناهضة لقيم العدالة وسيادة القانون والمنحازة إلى ديماغوجية النخب التي هي أشد وطأةً وشرّاً من ديماغوجية الشعوب.

 قالت "قانونية النواب" كلمتها في المادة 308، فأبقت عليها مع مزيد من التشوهات التشريعية والقيميّة التي تجعل من رضى الأطفال على الاغتصاب رضى سليماً ومعتبراً يعفي مرتكبه من جريرة جرمه وعواقب دناءة فعلته المشينة، ولم تجد اللجنة بأساً في إهدار جهد وعمل امتدّ لشهور من نخبة من قادة المجتمع السياسيّين والقانونيين بل ذهبت "قانونية النواب" إلى ما هو أبعد من ذلك لتفتئت على اتفاقية حقوق الطفل التي صادقنا عليها ونشرناها في الجريدة الرسمية لتسري قانوناً وطنياً ينسخ كل ما يتعارض مع أحكامه الموضوعية والإجرائية، حيث أن هذه الاتفاقية تعتبر كل من هو دون سن الثامنة عشر طفلاً قولا واحداً تنطبق عليه الأحكام والمبادئ القانونية الجنائية والمدنية وتلك المتعلقة بالأحوال الشخصية.

 يبدو أن حكماء مجلس النواب وجدوا في أنفسهم مرجعيةً تُقاس عندها أعتى المبادئ القانونية المستقرة في الفقه والقضاء المدني المعمول بها في مختلف دول العالم، إذ في الوقت الذي يعتبر فيه الشارع المدني أن تصرفات القاصر البالغ من العمر 15 عاما ولم يتم الثامنة عشر تصرفات قابلةً للإبطال لإدراك المشرع المدني أن هذه السن يعتري صاحبها من الغبض والغلط والتدليس ما يجعل تصرفاته دائماً قابلةً للإبطال لعيب الإرادة المحتمل، أرسى “قانونيّو” النواب قاعدةً تفترض صحة الإرادة وسلامتها في ما هو أخطر من التصرفات المدنية الدائرة بين النفع والضرر فأجازوا واقعة الجماع معتبرين عدم وجود إمارات الإكراه البدني قرينةً قاطعةً على سلامة الرضى بالمواقعة!

 يحاول دعاة شرعنة الاغتصاب تعزيز توجهاتهم المناقضة لبديهيات مبادئ سيادة القانون وتحقيق العدالة وحماية حقوق الأطفال وسلامتهم الجسمانية والنفسية بجملة من البيانات الخطابية المرسلة المستندة إلى ادعاءاتهم التي لا يسندها حجّة ولا دليل بـ”عدم جاهزية المجتمع... وإشكاليات التطبيق... والطابع المحافظ للمجتمع...” بل الأنكى من ذلك تذرع هؤلاء بأن 308 عقوبات إنما “شُرِعَت لحماية الضحيّة من القتل”! ويحار المرء كيف لا يعتري من يقول ذلك مسحة من خجل وحياء وهو يجعل من الأداة التشريعية التي تجعل من اغتصاب الأطفال عملاً مشروعاً؛ أداةً لحماية الضحية؟ وكأني بهم أدخلوا “سمعة العوائل وجاهليّة قلّة من أولياء أمور ضحايا الاغتصاب” جنباً إلى جنب مع مبدأ سيادة القانون والقضاء اللذان يتكفلان بحماية المجني عليه ومعاقبة الجاني، فابتاعوا “سمعة وشرف العائلة” على حساب حق الأطفال في الحماية واحترام كرامتهم المتأصلة.

المعادلة أبسط مما تصوّرونها وتتصوّرونها، فإما سيادة القانون وحماية الأطفال، وإما قانون الغاب ومكافأة الجاني وتقديم المجني عليه قرباناً له على مذبح المادة 308.

حينما تنحدر الأمم لتضع العادات والتقاليد وطبيعة المجتمع وتفصيل التشريع لينسجم مع التطبيق البائس القائم على منظومة تشريعية ظالمة ومجافية لأساسيات حقوق الإنسان والمبادئ الدستورية... ةفي كفة ميزان العدالة؛ مقابل سيادة القانون وسلطة القضاء، فإن المنطق يغدو عبثاً والحكمة تصبح هباءً تذروه صيحات تجار مزاد 308.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.