مرتقى صعب
تصرّ أفلام هندية حديثة، تحاول التماس مع الواقع العالمي المعاصر، على أن من ينقذ الحضارة الإنسانية هي قيم عالمثالثية (هندية) تجد طريقها إلى الاحتكاك مع نزعات الدولة القائدة (الولايات المتحدة)، وتضعها في النهاية أمام اكتشاف الحقائق والضرورات، التي تعجز هي نفسها عن رؤيتها.
وأفكر: هل وضَع الهنود أنفسهم في موضع أكبر من حجمهم في الواقع، أو جنح خيالهم بما لا يتناسب مع قدرتهم على وعي أنفسهم..؟
في هذه الأفلام الهندية، حينما ينفرد البطل بالبطولة، لا يفعل ذلك بقوته العضلية، ولا بالدور الانفرادي الحصري، ولا بالوعي الشخصي؛ بل غالباً ما يفعل ذلك بالإرادة الطيبة، وبوعي اجتماعي.
وهذه الأفلام تصرَ على أن يكون دوماً في الولايات المتحدة رئيس طيب، إنسان، مشلول القدرة أمام مؤسسة فاسدة عدوانية؛ وبالنتيجة يحرر البطل العالمثالثي إرادة الرئيس الأميركي، المشلول القدرة، من هيمنة المؤسسة الفاسدة العدوانية التي تسيطر على الحكم. وفي آخر هذه الأفلام تبدو فرضية الرئيس الأسود، الذي يذكر بباراك أوباما، إشارة لا بد منها للتأكيد أن لا علاقة عضوية تربط الرئيس الأميركي الخاضع بالمؤسسة الفاسدة العدوانية التي تسيطر على الحكم وتخضعه لإرادتها.
هنا، تشبه هذه الأفلام الهندية مثيلاتها الأميركية التي تتحدث كذلك عن مؤسسات وبرامج سرية لا يعرف بها حتى الرئيس. لكنها تختلف عنها في أن من يحرر الرئيس والمجتمع من هذه الهيمنة هو فرد، له على الأغلب سابق خدمة في الأجهزة الأمنية المهيمن عليها بدورها، بل وقد يكون هذا «البطل» جزءاً سابقاً من برنامج الهيمنة نفسه، قبل أن تنقلب عليه المؤسسة في محاولة لتقديمه قرباناً، يستر وجودها.
والسؤال عن الهنود يمكن تكراره حول الأميركيين..
بالمقابل، في الأدبيات العربية، لا وجود لأمثلة مناسبة. وهناك مرتقى صعب لأننا نعثر في الحالات التي تقترب من توصيف هذه الحالة، على جنوح إلى توصيف المسألة باعتبارها استهدافاً قومياً، له امتداد تاريخي، مشغول بالعرب وتاريخهم وأفقهم، وبمخاوف «عالمية» تتعلق بالتحسب لمستقبل العرب الحضاري، وما قد يشكله من خطر على كينونة الهرم العالمي المسيطر. والغريب أن الأبطال المنتدبين لإيصال الفكرة العربية هم «جواسيس» مشغولين بالوطن، ويعملون لصالح «دولة» مدنية على أبواب قفزة حضارية، وغير ذلك من الأوهام التي نتداولها حول أنفسنا.
لن أسأل لماذا أبطالنا، في هذه الحالة، جواسيس وعملاء مخابرات، رغم أن دول عظمى ذات موقع «حضاري» مستقر، تجهد وتجتهد في الانتساب إلى مآثر مناضلين من أجل قيم إنسانية متفق عليها عالمياً؛ ولن أسأل عن اتفاق المتخيلين الهندي والأميركي على وجود مؤسسة فاسدة عدوانية (جماعة وتنظيم عصري معقد) مقابل رئيس فرد (يجب المنتجون وشباك التذاكر أن يتصدر الأفلام ممثل بعينه)، لكني سأسأل: لماذا يحجزنا الإحساس القومي في خيالات وهمية لا تنتسب إلى الماضي ولا إلى الحاضر، بينما ينقل الآخرين إلى مقدمة العصر؟
هناك بالطبع أجوبة كثيرة منها أن هذه ليست المقاربة الوحيدة التي تستفز الخيال، هناك غيرها، ومنها ما يأتي على هيئة سؤال كبير: لماذا نحن في خيالنا عاجزين أن نكون في العصر، تماماً كما نعجز أن نكون كذلك في الواقع، ولماذا هذا العجز يجمعنا مؤسسات وأفراداً منفلتين!؟
وبالأساس: لماذا ليس لدينا خيال نطمئن إليه، ويشكل قاعدة لطرح أسئلتنا..؟ ولماذا ليس لدينا فكرة حاضرة حول معنى وجودنا وطبيعته ومعناه، ولدينا تصور جاهز حول الأعداء الأشداء الخبثاء المقتدرين الذين يخشون هذا الوجود وطبيعته ومعناه، وكل مظاهره التي لا نعيها ولا نفهمها، ولسنا متأكدين من وجودها.
هل هذا شيء يقودنا إلى التفكير بعجزنا في الأدب، من باب الإشارة إلى ضعف خيالنا الذي يدفعنا إلى تكرار التصورات الذهنية البائسة، ويقود جهلتنا إلى «داعش»، وعدم قدرتنا المشهودة في أن نحاكم أنفسنا..! وهل هذا يفسر أننا نذهب إلى خامة اللغة ونتجنب الاعتراف المروي بالواقع؟ أو أننا نقدم حكايات على غرار ما تقدم الشعوب الأخرى من باب مشاركتهم في نقد أنفسهم، في الوقت الذي لا نجرؤ فيه على وضع أنفسنا موضع الانتقاد!
بلى، هذا يضعنا إلى جانب «رويعي الغنم» الذي ارتقى مرتقاً صعباً!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.