مربعات رقعة الشطرنج

مربعات رقعة الشطرنج
الرابط المختصر

 

 

ليس في غفلة من الزمن ولدت هذه "الخلائق الداعشية" الضاربة هنا وهناك؛ إذ لازمها الزمن ورعاها حتى قويت واستقوت! ليست طفحاً بثورياً وبائياً انتشر على وجه حاضرنا العربي، وكأنه هبط من عالم الغَيب، ففوجئنا وفوجئ العالم وأصابه الذعر والارتباك! أبداً؛ فالجذور تحت الأرض مَكينة متمكنة سُقيت جيداً، والشروط فوق الأرض هُيأت تماماً.. فأينعت، وها هي آخذة بِفَرْد "ظلالها" علينا جميعاً. ظلالٌ بيارقُها سود، وكلماتها دماء، وما نحن إلّا جبال من الضحايا اليوميين يرتقونها للصعود إلى السماء!

 

والسماء، في مفهوم هذا الوقت وكل الأوقات، لا تعدو أن تتخايل عروشاً وصولجانات. لا تعدو أن تكون حُكماً متحكماً، وسلطة متسلطة، وارتفاعاً للعُلا العالي ليتراءى البَشَرُ من تحته كائنات من هباء!

 

كأننا نعيش ملحمة فانتازية تجاوزت حدودها أساتذة كتّاب "الواقعية السحرية". ولو أنّ غابرييل غارسيا ماركيز خرجَ ليشهد يوماً واحداً منها؛ لقتلته الغيرةُ وعاد إلى قبره مقهوراً! حينها، سنعيد عليه مأثورة ما صرنا نلوك معناها بسبب قراءتنا لعوالمه العجيبة: "الواقع أكثر غرائبية وجنوناً من الأدب."

 

دُوَلٌ تتلعثم أمام لغة هذه "الخلائق الداعشية" الفصيحة الواضحة، فلا تعرف كيف تردّ عليها سوى بالدعوة لـ"الوحدة الوطنية" في مخاطبة شعوبها، و"اتخاذ كافة التدابير اللازمة" لدواعي بثّ الطمأنينة في نفوس ملايين اللاجئين في الداخل. أما عن ملايين اللاجئين في الخارج؛ فَحَدِّثْ عن فرارهم من تلك "الطمأنينة" الزائفة ولا حَرَج. ولماذا الحَرَج أصلاً، ما دام الموت الأعمى انتقلَ من كونه "زائراً مؤقتاً" إلى "مقيمٍ راسخ" بين ظهرانينا، إنْ لم يشاركنا إفطار رمضان هذا اليوم فلسوف يحضر، بالتأكيد، مائدة السحور!

 

حَسَنٌ، ها نحن نتواجه يا أيتها الدول، ونسأل: أين كانت الوحدة الوطنية، في سلم أولوياتكِ، منذ أكثر من خمسة عقود؟ هل أُخِذَت بالاعتبار يوماً بوصفها الإجراءات الحتمية لبناء دولة المواطن المزدهرة بالحرية، والمساواة، وتكافؤ الفُرَص؛ أم تمّ توظيف التعدد في مكونات مجتمعاتكِ كمربعات منفصلة على رقعة شطرنج في لعبة أمنية أسميتها "التحكم والسيطرة"؟

 

لا عليكِ: أنتِ تعرفين أننا نعرف. ولا علينا: نحن نعرف أنكِ تعرفين.

غير أنّ جزءاً من ملحمة الفانتازيا العربية المعاصرة هذه، والباعث للسخرية المُرّة كالعلقم، هو أنكِ (يا الدُوَل) بدوتِ، وكأنكِ من فرط "براءتك"، قد أصابتك الصدمة! مصدومة أنتِ، وتريدين معالجة الأسباب الغامضة لولادة هذه "الخلائق الداعشية"! تريدين، وتخططين، وتعملين، وتقولين، وتتحالفين، وتناشدين، إلخ. وأنا، من جهتي، مَيّالٌ لأن أصدِّق كلّ هذا، لكنني أكثر ميلاً للتشكك في الغاية والهدف. أمن أجلكِ أنتِ، أم من أجلنا نحن الذين نكوّن "الوحدة الوطنية"؟

 

عذري في تشككي عقودٌ متصلة من تواطئكِ "الأمني" مع الحاضنات الراعية لتلك "الخلائق الداعشية".

نعم، هكذا بصراحة، ولا حاجة لأن نختلف بسبب هذه الصراحة لأننا، منذ أوّل الستينيات السياسية، كنا مختلفين. رؤيتنا تجلَّت في التعدد الفكري ضمن إطار العمل الوطني المدني، ورؤيتكِ تُرْجِمَتْ في تكريس اتجاهٍ واحد يختزل الجميع داخل إطار برغماتي، احترفَ استثمار الوجدان الديني بالتلازم مع قمعكِ لأيّ طرف آخر، ما أدّى إلى فراغ كبير. وهكذا كان؛ لم يبقَ "في الميدان إلّا حديدان": أنتِ في السياسة، وحاضنة الخلائق إيّاها في المجتمع.

 

وهذا ليس سبباً غامضاً خافياً عليكِ؛ فعَين الأمن لديكِ لا تنام.

وإعادة تأهيل أجيال وأجيال وفق منظور يحتضن "أفكار التكفير"، بالعَبَث في مناهج التعليم منذ المراحل التأسيسية، ليس سبباً غامضاً خافياً عليكِ أيضاً.

وانتشار مراكز الإرشاد والتحفيظ في كلّ حيّ، تقريباً، للذكور والإناث، ليس سبباً غامضاً خافياَ على عين أمنكِ الساهرة.

واقتحامات سرايا الدعاة والداعيات للبيوت، والسؤال عن ماهية الدروس المُعطاة لأصحابها من البسطاء، لا تخفى على هذه العين.

 

لن أطيل.

فأنا أصدِّق أنكِ تعيشين الصدمة. تعانين الذهول المربك، لأنّ الربيب تحوّلَ،ونما، وتوحش، واستدار لينهشك أنتِ أيضاً. أصدّق أنكِ تريدين معالجة المسألة، فهذا أمر مفهوم. غير أنّ سؤالي ما يزال هو هو:

أمن أجل استمراركِ على راهنكِ ومراهناتكِ، أم في سبيل تحقيق "الوحدة الوطنية"؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.