محمد شحرور والكهنوت
في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2019 توفي الدكتور محمد شحرور، وما لبث خبر وفاته أن أعاد للواجهة الجدل الذي سببته كتاباته ودراساته، وانقسم الجمهور بين شامت ومتشفٍ بموته وبين متأسف ومترحم عليه.
والحق يُقال فالرجل أثار الكثير من الجدل ولطالما كانت حجته ثابتة وبرهانه حاضر وجوابه حاد.
ومع كل ذلك فالشغب الذي أثاره عمل عمله في خلق طبقة مثقفة "دينيا" في الوقت الحالي وأفرز نوعا من النخبوية الفكرية وإن كان بشكل محدود.
زادها تفردا لهذه النخبوية الهجوم المنبري من قبل رجالات الدين، وخاصة أن جلّ هذه الردود أغرق وأسرف في مأسسة لنظرية "الغباء" الفطري لهذه الطبقة من خلال طبيعة ردودها السطحية، فلا يوجد منهم من تعمّق في فهم منطق الرجل، وآلى على نفسه جهدا لكي يقدم نقدا منطقيا لنظريته.
وعلى هذا فتعود شهرة الرجل وقدرته على الإقناع لعدة أسباب سنذكرها آنفا:
أولها – أن الرجل قد صادر سلطة الكهنوت الإسلامي في سلطته المطلقة والممؤسسة على نقل التراث والإشراف على فهمه وتعميمه على الرعية الإسلامية، وضربها بصميمها وهذا متأتٍ من كونه ليس برجل دين أو فقه ولكنه خاض غمار الفكر الديني المحرم على العامة. وهو ما أثار تلك الموجة المهولة من الهجوم العنيف والتكفيري والساخر بشكل ساخر على مفاهيمه.
ثانيها – أن الرجل بنظريته قدم طريقة عملية ومنطقية قادرة على مخاطبة العقل الفردي دون دعوى للمعرفة الدراسية للتراث الفقهي الإسلامي. حيث تكشف منطقية الدكتور شحرور عن بساطة ومخاطبة المنطق العقلي وتحرير "المسلم" من التراث الاضطهادي القمعي للفقه ووضع الإنسان في حالة جمود وهي الحالة التي تبتغيها السلطات الموجودة في بلادنا من أعلاها إلى أدناها، وكذلك تمكن من نقله لإنسان بعقلية العصر الحالي وليس بعقلية تعود إلى ما قبل ألف وأربعمائة عام.
ثالثها – إثارة التساؤل عن المنهجية المتبعة عبر تاريخ التراث الفقهي للإسلام على مدى ألف وأربعمئة عام، والسؤال المهم هنا، هل غابت منطقية قراءة الكتاب والنص هذه والتي اتبعها شحرور عن كل هذا الحشد المتراكم من علماء الفقه والأصول على مدى العصور. وخاصة في العصور التالية بشكل مباشر للعهد النبوي والأكثر قربا وقدرة على فهم مكنون النص.
هنا يعود التساؤل مجددا عن دور السياسة في بلورة النظرية الدينية سواء في ما يتعلق بالإسلام أو حتى غيره من الأديان وعن مدى انصياعها وطواعيتها للسلطة السياسية ولجوئها لحلول جانبية لتبرير السلطة، كلجوئها للأحاديث مثلا كمرجعية تملك قوة تبز قوة المرجعية النصية للكتاب.
ومن أي مقارنة بسيطة بين المنهج والنظرية التي طرحها شحرور والفقه المتوارث نجد غياب المنطق العقلاني الحقيقي في فهم النص القرآني سابقا سوى شذرات ونذرات بين هنا وهناك.
رابعا – تقدم نظرية شحرور قراءة جديدة للنص القرآني، تعيد تسليط الضوء على الشخصية المحمدية وعلى دور اللغة العربية المتداولة في العهد النبوي والمقاصدية في النص والنظرية الإسلامية، وهي تعيد النظر في شخصية محمد كشخصية استثنائية قادرة على بلورة (دون الخوض في صحة الإيمان والنبوة المحمدية) مفاهيم رسالته وسَلسَلة أفكاره ومبادئه بطريقة منطقية عميقة أغرقتها العصور والسلطة السياسية في تغييب واضح لجوهرها.
نظرية شحرور تستدعي قراءة متأنية وعميقة للإسلام ولشخصية محمد من كل النواحي مجددا بعيدا عن كل المرجعية الفقهية والتراثية المتراكمة على مر العصور وإخراجه من تلك النظرة التي تراه بعيدا عن مفاهيم الحضارة، وهو ما حاولت نظريات الاستشراق إسباغه على الشخصية المحمدية (وإن كان في بعض المساري كمحاولة للفهم التاريخي للإسلام وللشخصية المحمدية).
رابعا – استعداء الكهنوت الحداثي الذي يرى في الإسلام شرا مستطيرا دون هوادة، وأن الإسلام بكل مفاهيمه ومحموله شر لا يُقبل منه شروى نقير. وهو ما حاولت دائما التيارات اليسارية التي ابتدأت طبقاتها السلطوية في بلادنا بالاستنقاع والتبلد والتجمد وتكوين ركودها السلطوي المعهود.
محمد شحرور يقدم نظرية متقدمة في فهم الإسلام تعيد تسليط الضوء على الإسلام وعلى الشخصية المحمدية. وهو إن كان يقدمها بطريقة جدا علمية وثورية فهذا لا يعني خلو نظريته من أخطاء ومن تطلبها لمراجعات هائلة، ومن محاولته تجنب نقاط خلاف، كالإيمان والإلحاد والتي حاول تجاوزها في ما يعتبره حرية القرار أو القدر.
نظرية شحرور تستدعي عملا جادا لإعادة تكوين منمنمات الإسلام ومحمد في بداياته ويعطي نافذة قادرة على إعادة فهم الإسلام بشكله المجرد دون اللجوء إلى مراجع تاريخية غائية لاحقة
مع ذلك يعتبر عمل هذا الرجل وإصراره على العمل استثنائيا يستحق الاحترام حتى من أكثر الناس تهجما ورفضا لعمله.
الحوار المتمدن