أظنني لو لم أكتب هذا المقال لاعتبرت نفسي مشاركًا في صناعة هذين الصنمين اللذين يتعبد الكثيرون في محرابيهما دون أدنى اعتبار لما يفعلون من تكريس مطلق للرجلين، إذ تحول محفوظ وأدونيس إلى صنمين مقدسين لا يجب المساس بهما كأنهما إلهين من آلهة الحياة، وأن مجرد الخروج عن السرب فهو مؤول بأشياء أبسطها سيجيء باتهام الهامش الذي جئت منه أدبيًا، وأنني أود النيل من قامات كبيرة، واستطرادًا أذكر أنني في السنوات الماضية بعد ثورة 25 يناير 2011، تعرضت لهجوم شرس حين أردت في واحد من المقالات أن أفهم اللقب الذي أطلقه السلفيون على "أبو إسحاق الحويني" –شيخهم- حين وصفوه بأنه "أعلم أهل الأرض بالحديث الشريف"، تساءلتُ من يمنح هذه الألقاب؟ وكيف يمكن للتلميذ أن يحكم على أستاذه؟ أليس من المنطق أنني حين أقيّم شخصًا في مجال ما، يُفترض أن أكون أعلم منه وأكثر خبرة في ذلك المجال؟! فكيف يحكم السلفيون على الرجل –وهم في وجهة نظرهم أقل درجة منه علمًا ودينًا؟ّ وللحقيقة؛ أندهش حين أجد ردود الفعل تقول، إذ كان ذلك، فأنت غير مؤهل للحكم على هؤلاء الأقطاب، وهنا أعود لأوضح أمرًا هامًا، وهو أنني لستُ بمعرض الحكم القيمي لهؤلاء بل أنبه فقط إلى ظاهرة تحدث، وإلى صناعة صنم تمت بكل وضوح، وخوف الجميع وترهيبهم من المساس بذلك الصنم أو طرح التساؤلات حوله لحلحلة هذه الصنمية المطلقة له، وهذا لا ينفي عن هؤلاء قدرتهم الفذة وموهبتهم اللامعة، لكنه لا يستثنيهم من النقد. ببساطة ووضوح، أعود وأسأل كيف تقبل البعض مقالتي حول "أبو إسحاق الحويني"، وكيف يمكن أن يرفض نفس المنطق حين أحركه نحو "محفوظ" و"أدونيس"؟! أظن الرجلين صارا "صنمًا نبيلاً"، بينما نتجه إلى زمن لا مكان للأصنام فيه، ولا يوجد ما هو بعيد عن دائرة النقد والتساؤل مهما كان.
المبدع والسياسة:
يلفت انتباهي دائمًا علاقة المبدعين بالسلطة وهرمها على مرّ العصور في حالات كثيرة يُسجلها التاريخ الإنساني وليس تاريخ الأدب وحده، وهو ما يُلفت الانتباه عندي إلى "محفوظ" و"أدونيس" وكيف تمَّ تسيسهما، واللعب بهما كورقة سياسية خفية، ولعل المثال الأنصع في مصر، حين كان الموقف السياسي الغربي ضدّ الناصرية، فقررت الآلة الغربية استخدام نموذج "نجيب محفوظ" للدعاية ضد الحقبة الناصرية، التي روجت بدورها للكاتب "يوسف إدريس" كاتبًا لمصر، وهو ما تجد له دليلاً آخر في الفترة الساداتية التي علا نجم نجيب محفوظ فيها، وتمّ تصويره وتصوير أدبه بالتحريضي والمقاوم للفترة الناصرية، وهو ما لم يقره الرجل أبدًا بنصه، لكنه في نفس الوقت لم يقم بنفيه، وأعود وأكرر بأن المؤولين سينبرون للإشارة إلى كذا وكذا، بتأويلات لا تُلزم، إنما تفتح الأفق لإعادة قراءة في النصوص وتأويلاتها، بدراسة شفافة ومحايدة من موقع الرجل من تلك السلطة الأبوية في مصر، وهو أمر له موازٍ من سيرة أدونيس بعيدًا عن تلك المواقف الخطابية الرنانة، وحفلات التأويل من دراويشه ومريديه.
يتخلص العالم المعاصر في ظلّ التسارع المعرفي والانفتاح اللامحدود من فكرة الأقانيم والحراس، ويفتح الباب على مصراعيه لإعادة قراءة من زوايا جديدة غير مطروقة، وحلحلة تلك الأصنام الإنسانية وعرض مواقفها بشفافية خالصة من الإعجاب المطلق والتنزيه المريب، وهنا لا أدعو لإزاحة ذلك المنتج الأدبي والفني والإنساني للرجلين، لكن أطرح فكرة إعادة الاكتشاف بشفافية، وفتح الباب أمام وجهات نظر مخالفة ومغايرة لتلك التي تكرس النظرة الأدبية والفنية إلى الرجلين باعتبارهما قيمة لا يجوز المساس بها أو مناقشتها، وهذا ليس دفاعًا عن الرديء، لكنه حق أصيل لكل جيل أن يُقدم أسئلته حول الأدب والفن الذي يستصيغه ويراه أكثر ملاءمة لعصره، والملاءمة هنا لا تعني بالضرورة أن يكون أسمى قيمة، فقط هو ملائم لطبيعة العصر بعيدًا عن قيمته الأدبية والفنية، وحق تلك الأجيال أن يكون لها رموزها الأدبية والفنية، وضرورة النظر إلى ذلك بتفهم لكونه مرحلة وخطوة من خطوات سير تاريخ الأدب والفن، وبعيدًا عن مفهوم القيمة، فكما قلت ليس شرطًا أن يكون كل تقدم أو كل جديد يتم تقديمه، بقوة السالف وقيمته، لكن يجب الانتباه إلى كونه خطوة لازمة يمر بها التاريخ الإنساني، نحو مستقبله وعصره التالي، وهي خطوة لها كل الحق أن ترفض العيش في جلباب تلك الأقانيم، وأن تخالف فكرة التشابه مع الماضي، وأن ترفض فكرة الأستاذية في ظل عصر تكنولوجي ضرب تلك القيمة "الأستاذية" في مقتل للأبد.
كل مبدع بعصره رهين:
قدم محفوظ الحارة المصرية بكل روعة وإبداع، ونقلها من محليتها إلى العالمية، محدثًا نوعًا من الإبهار على مستويات عديدة، لكن التساؤل الحقيقي، كم من المفردات المصرية الأخرى الكثيرة التي قتلتها حارة نجيب محفوظ؟ كم من العوالم المصرية الأخرى تمَّ قتلها عمدًا أو بغير قصد أمام سطوة حارته وعالمه الأدبي؟ فهل الحارة المصرية التي قدمها هي مصر بتفاصيلها المدهشة؟ ألا يوجد عوالم أخرى غير عالم الحارة المسيطر على جلّ أدب الرجل؟!
دعني أقدم لك مثالاً بسيطًا لما أريد؛ اعتبرها تجربة عملية، وقم بسؤال عينة من الشباب عن قراءاتهم الأدبية، ستجد الكثيرين منهم ممن لا تعنيهم حارة محفوظ، وتشغل بالهم أفكارٌ أدبية أخرى غير عالم محفوظ السحري. وكذلك عالم أدونيس الشعري؛ ستجد العديد من اتجاهات القراءات الشعرية لشباب وليد عصر التكنولوجيا وعصر الانفتاح، لم يجد هؤلاء الشباب في قراءاتهم مجالاً فسيحًا لأشعار أدونيس، وهو ليس عيبًا فيهم، إنما هم نتاج طبيعي لعصر منفتح، تغيرت قيمه وآليات الحركة الإنسانية فيه، فلم يعد العالم عالم الصراعات الكبرى، إنما صارت اللعبة مغايرة تمامًا ومفرداتها شديدة التعقيد بما تقدمه التكنولوجيا كل ثانية لهؤلاء الأجيال، وهذا لا يجعلني أندهش حين أجد هؤلاء الصاعدين من الجيل المعاصر لا يلتفتون إلى محفوظ أو أدونيس، إذ هم في حقيقتهم أجيال تربت خارج إطار السلطة الأبوية التي تربت عليها ذائقة الكثيرين ممن تحزبوا للرجلين وصنعوا لهما "صنمًا" محرمًا على المساس، هم أبناء جيل له صراعاته التي تخالف صراعات السابقين، التي كُنا نراها نبيلة وحالمة، فهم أبناء البساطة والوضوح والمباشرة، ولا حاجة لهم بتخمة الترميز والتأويلات اللامحصورة، إذ يصبح فائض الوقت لهم رفاهية غير موجودة في ظلّ ذلك العالم التكنولوجي المرقم الذي يُقدم كل لحظة جديدًا في كل شيء، فيُشكل وعي هؤلاء من تلك الأجيال.
أظن أن فهم طبيعة هذا العصر دون الحكم عليه بأحكام القيمة، هو أمر ضروري، ويجب أن نتفهم إلى جانبه أنه طبيعي كخطوة في تاريخ الإنسانية، وبعيدًا عن جمالها أو رداءتها، إلا أنها خطوة لها أهميتها في نسق التاريخ الطويل الممتد، وهي المعبر إلى خطوات مستقبلية تالية، لا نعرف عن قيمتها أو تقديرها، لكننا نعرف أنها رفضت هذه السلطة الأبوية، وجعلت كل العالم تحت مجهر التحليل والمناقشة دون اعتبار لأي صنم تمّ صناعته في أي مجال من مجالات الحياة الإنسانية بأسرها.
روائي وباحث أدبي