من أكثر ما يعوق أي فكر إصلاحى تنويرى هو رفض النقد وليس رفضه فقط بل تشويه صورته وإعتباره نوع من أنواع الشتم والسب والإدانة والإهانة فعدم التمييز بين النقد والإدانة هو أكبر مُعطل لفرز صحة الأفكار أو بطلانها وعدم التمييز بين ما هو صحيح وما هو باطل هو نتيجة طبيعية لغياب ثقافة النقد ، ومنذ نوعمة أظافرنا تربينا على فكرة عدم الإدانة خاصة لطبقة الكهنة فهم فئة جعلناها فوق كل نقد ومساءلة وبحث لأنهم وكلاء ووسطاء بين الله والإنسان هكذا علمونا وفهمونا حتى صارت هذه الطبقة مُحصنة مهما إرتكبت من أخطاء فكرية وجرائم إنسانية ولايمكن الإقتراب منها لأن نقد هذه الفئة يُعتبر نقد للإله نفسه.
لكن ما النقد؟ وما الإدانة ؟ وهل المسيحية تُعلم عدم نقد الأفكار الخاطئة؟
أولاً . النقد : النقد ليس إنتقاص من قدر الأشخاص أو شتيمة ولعن ومسبة كما فهمونا لكن النقد بإختصار شديد هو التمييز بين الأفكار والكشف عن صحتها وخطئها بناء على المنطق والعقلانية والعلم فهو فعل نبيل وشريف يهدف إلى التطور ومعاجلة مشكلات الواقع وتقديم حلول مناسبة ، وكل الفلسفات والعلوم والأفكار والنظريات لايمكن أن تتقدم خطوة واحدة إلا لو تم نقدها للتأكد من مدى صحتها وإنسجامها مع بعضها البعض ومع الواقع أيضاً فالنقد هو الأساس والأصل للتقدم في كل المجالات والتخصصات ولولاه ماكانت العلوم وجدت أو تطورت ، فالفهم الخاطئ عن النقد الهدف منه جعل الإنسان عبد لطبقة رجال الدين وغض البصرعن كل أفعالهم حتى يصبحوا هم المرجعية الوحيدة للصواب والخطأ .
ومن التناقض العجيب نجد الكهنة من حقهم توبيخ الشعب ونقده وتقريعة على خطاياه لكن يستثنوا أنفسهم من هذا المكيال وعندما ينتقدهم أحد من الشعب يعتبرونه خائن للكنيسة وينتقص من الآباء ويشتمهم ، فهؤلاء عزلوا وفصلوا ذواتهم عن باقى الشعب وكأنهم الطبقة المعصومة التي لاتخُطىء وإن أخطأت فليس من حق أي إنسان أن ينتقدهم بل واجب الشعب التستر عليهم حتى يظهروا بالشكل الملائكى المثالى كأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا ومن طبيعة غير طبيعتنا، والشعب الذى تمت برمجته على هذا الأمر غدا يدافع عن هذه الفئة حتى ولو إغتصبوا حقوقهم وإستعبدوهم وسلبوا منهم عقولهم وأموالهم لأنهم رسخوا في أذهان هؤلاء البسطاء أن النقد هو إدانة وتجريح وخطيئة يُحاسبنا الله عليها يوم الدين ومن الممكن أن الله يُلقينا في جهنم بسبب هذه الإدانة التي هي في الأصل النقد السليم الذى هو حق مشروع لأى إنسان لأن كما قلت النقد هو تمييز وفرز لمدى صحة الأفكار .
ثانياً . الإدانة : قال المسيح في (إنجيل متى 7: 1لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا) لكن الإدانة ليس لها علاقة بالنقد لأن الإدانة تُعنى معايرة الناس بسبب ضعفهم الإنسانى والتي تكون مصحوبة بالكبرياء والتعالى على الآخر وكأن الشخص الذى يُدين إنسان ما على خطيئته هو كامل بلاعيب ، فالإدانة تكون مرتبطة بالشخصنة والتجريح والإهانة والإنتقاص من الآخر وتحطيمه وإحباطه وهذا الذى نهى عنه " المسيح " أما النقد فهو يرتبط بالفكر وعدم الشخصنة لأن النقد المنطقى السليم يعتبر كل شخصنة مغالطة منطقية لايمكن الإحتكام إليها في النقاش الفكرى والهدف منه تصحيح المسارات الخاطئة ومعالجة مُشكلات الواقع ، فالفرق بين الإدانة والنقد واضح وجلى ، لكن رجال الدين إستخدموا هذه الآية وصدروها إلى الشعب ولصقوا في أذهانهم أن النقد هو إدانة وخطيئة فماتت روح النقد وصار السواد الأعظم من المسيحيين لايفكرون ولايستخدمون عقولهم لأنهم إعتبروه شخصنة وتهكم وتجريح وخطيئة وكل هذه الأمور سيحاسب الله عليها الإنسان فبدأ الشعب يُطبق مبدأ " إبن الطاعة تخل عليه البركة " فأصبح العقل غير فعال وفى حالة جمود وبدل من أن تكون مهمتة تحليل الواقع وفحص الأفكار أصبح يقبل بكل الأفكار حتى الخاطئة ، فكيف يكون هناك تنوير وإصلاح والعقل فقد خاصيتة الوجودية التي تُميزه؟ كيف يُمكن أن يكون هناك تقدم وتطور والعقل نفسه أصبح عاجز وغير قادر على التمييز بين ما هو صحيح وما هو باطل ؟ كيف يُمكن أن تكون هناك نهضة فكرية حقيقية ونحن نكره النقد ونعتبره خطيئة وجريمة ؟
ثالثاً وأخيراً . هل المسيحية تُعلم عدم نقد الأفكار الخاطئة ؟
1- الوحى المسيحي في مجمله عبارة عن سرد لتفاصيل حياة الإنسان الروحية مع الله ، وقد دون لنا أخطاء الأنبياء لا لكى نكرر هذه الأخطاء بل لنتعلم من نتائجها التي من الممكن أن تدمر حياتنا الروحية مع الله ونستفاد منها العبر التاريخية فلو كانت المسيحية ضد النقد ما كانت ذكرت أخطاء الأنبياء بل كانت تسترت عليهم وأظهرتهم بالشكل المثالى الكامل فهل الوحى أخطأ لأنه أدان الأنبياء وسجل إنحرافهم حسب مفهوم هؤلاء الخاطئ المشوه عن النقد؟ بالطبع لا الوحى لم يُخطى لأن الوحى إنتقد كل ما هو خاطئ حتى نتعلم من هذه الأخطاء فهذا نقد مطلوب وضرورى لأن الإنسان لايُمكن أن يكون فوق سُلطة النقد لأنه ليس إلهاً كاملاً بلا خطيئة.
2-" المسيح " نفسه إنتقد رجال الدين في عصره علناً لأنهم إستخدموا الوحى لمصلحتهم الخاصة وبدل من أن يكون الغرض النهائي للوحى هو خدمة الإنسان هؤلاء جعلوه يخدم مصالحم الشخصية كى يسيطروا على باقى الشعب بحُجة أنهم رجال دين فهل المسيح أيضاً وقع في خطيئة الإدانة؟ طبعاً لا المسيح إنتقد كل شيء أثر بالسلب على حياة الإنسان وإنتقد إستعباد الناس باسم الشريعة والدين وهذا أمر مشروع فينبغى أن لا يصمت الإنسان عن كل فكر من شأنه أن يسلب من الناس إرادتهم وعقولهم وحياتهم .
3- الوحى نفسه يأمر ويحث الإنسان على " إمتحان الأفكار " كما جاء في (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 1) أيها الأحباء، لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم.) فعدم التصديق وإمتحان الأرواح هو النقد ذاته لأن الإمتحان معناه إستخدام العقل وطرح الأسئلة حول أي فكر وعدم التصديق معناه عدم التسليم بأى شيء بل علينا أن نشك ونبحث ونفتش كى نتأكد من صحة الأفكار التي تُقدم إلينا وهناك آيات آخرى كثيرة تدعوا الإنسان لإستخدام عقله وعدم قبول أي شيء بسهولة بدون فحص فالوحى في مضمونة يريد أن يكون الإنسان مؤمناً بقلبه وعقله ونفسه فالإيمان بدون عقل هو إيمان ناقص والتفريط في إستخدام العقل هو تفريط في أهم عطية وهبة إلهية ، إذن لماذا رجال الدين يرفضون النقد ويعتبرونه خطيئة وإدانة ببساطة لكى يعيشوا في أجواء من القداسة ويعزلوا أنفسهم عن بقية الشعب ويكون لهم السُلطة والمرجعية في تحديد الصواب والخطا لأن داء السُلطة أكبر عدو له " النقد " لأن النقد يعمل دائماً على مساءلة السُلطة ويرفض تجاوزها وسيطرتها على الإنسان ويهدف إلى التحرير وإستخدام العقل يُهدد أساسات كل من يريد تحريك البشر كقطع الشطرنج .