استراتيجية ملحّة للصمود في القدس
مع دخول وقف إطلاق النار في غزّة حيّز التنفيذ، من الضروري متابعة ما يجري في باقي فلسطين، وخصوصاً في أراضي الضفة الغربية المحتلّة. وفي هذا المقام، من الضروري استعراض ما يجري في القدس المحتلّة، حيث الترانسفير (التهجير الإداري الممنهج) جزء من العقيدة والسياسة الإسرائيلية بشكل عام، وسياسة حكومة نتنياهو التابعة للمستوطنين وأطماعهم، خصوصاً.
تتعرّض القدس الشرقية، خصوصاً البلدة القديمة، لعملية ممنهجة لتضييق الخناق، في محاولة للتهويد والأسرلة. كان ذلك ما يجري يومياً من اقتحام وتغير في الوضع القائم في المسجد الأقصى، أو في محاولة تضييق الخناق على المقدسيين لإقناع أكبر عدد ممكن منهم بالهجرة الكاملة، أو على الأقلّ الانتقال إلى ما خلف الجدار العنصري. وتبرز أمور حياتية عديدة، منها التنقّل في الاتجاهين. وتستمرّ سياسات الاحتلال لمنع لمّ شمل العائلات الفلسطينية التي تشمل أحد الزوجين، إذ يكون فلسطينياً مسجّلاً في باقي مناطق الضفة الغربية أو قطاع غزّة. هنا يقع الزوجان في معضلة، إذ لا يسمح لمن لا يحمل الإقامة المقدسية (الهُويَّة الزرقاء) المبيت في القدس، ما يجبر الزوجين على السكن في المناطق المكتظّة خلف الجدار، وبصورة شبه مخالفة للقانون الإسرائيلي، أو التنازل بصورة غير مباشرة عن الإقامة والسكن في مناطق الضفة أو الدول العربية والعالمية.
ويبرز موضوع التنقّل من الدول العربية وإليها، المحصور بالأساس (خصوصاً للطرف غير المقدسي من الزوجين) بالسفر عبر جسر الملك حسين، والمعاناة التي يواجهها المقدسيون بسبب الاحتكار والأنظمة البالية، مع ارتفاع حادّ في التكاليف والتأخير، وغيرها من المضايقات. فقد نشر الإعلام الفلسطيني قصّةَ أمّ مقدسية وطفليها كلّفهم التنقّل عبر جسر الملك حسين (الأسبوع الماضي) ما يزيد على ألف دولار من رسوم سفر وسيارات أجرة (اضطرت العائلة إلى استخدام خدمة VIP بسبب الازدحام على الجسر)، بسبب ارتفاع ضريبة الخروج الإسرائيلية للمقدسيين، وسماح الأردن بالخروج بالتصاريح الإسرائيلية المُكلِفة فقط، وغرّمها ضبّاط الجمارك الإسرائيلية 800 شيكل (225 دولاراً) ضريبة هاتفها النقّال الذي تستعمله، لأنه من نوع آيفون الجديد.
وفي موضوع السكن، حدّث ولا حرج، إذ يتمسّك المقدسيون بدفع ضريبة ضريبة الأملاك (الأرنونا) العامّة باستمرار، حفاظاً على إقامتهم. والمعروف أن الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس الشرقية هم الأكثر ثباتاً في دفع الضرائب البلدية، وقد أصبحت هذه الضريبة أكثر الوثائق أهميةً تُظهر أن الشخص الذي يدفعها يعيش في القدس، وبالتالي لا تُلغَى إقامته أو تُسحب هُويَّته، كما حدث لما يقارب 20 ألف فلسطيني مقدسي في مرّ السنين.
لم تحترم إسرائيل قرار محكمة العدل الدولية، الصادر عام 2004، بأغلبية 14 صوتاً في مقابل صوت واحد (عارضه قاضٍ أميركي)، الذي اعتبر الجدار "غير قانوني"، ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى تفكيكه، ما أحدث وضعاً غير طبيعي للمقدسيين الذين تجبرهم الظروف على السكن خلف الجدار، وبذلك يفقدون الخدمات من الجانب الإسرائيلي، فيما يُمنع الجانب الفلسطيني من توفير الخدمات لهم.
أصبح المقدسيون أيتاماً سياسيّاً، فلا أحد يمثّلهم، لا في الجانب الفلسطيني ولا في الجانب العربي
وقد رفعت السلطات الإسرائيلية أخيراً الضريبة البلدية لكلّ من سكن في بيت بعد عام 2022، بشكل كبير، ما شكّل مصروفاً كبيراً إضافة إلى مصاريف الحياة الباهظة، وأكثرها أهميةً بدل الإيجار أو التملّك، وهو شبه مستحيل لأيّ عائلة عادية بسبب وصول ثمن الشقّة في القدس إلى أكثر من نصف مليون دولار. وارتفاع ثمن الشقق كان بسبب رفض إسرائيل الموافقة على أيّ مخطّط سكني في القدس الشرقية منذ عام 1967، الأمر الذي يجبر بعضهم على البناء بغير ترخيص، وقد تضاعفت أخيراً عمليات هدم البيوت في القدس التي بنيت بحجّة غياب التراخيص.
ما هو أصعب من المضايقات الإسرائيلية كافّة، وعقبات الجسر وغياب استراتيجية صمود لمجابهة نقص المساكن وارتفاع الضرائب البلدية وغيرها، هو حالة المقدسيين، الذين أصبحوا أيتاماً سياسيّاً، فلا أحد يمثّلهم، لا في الجانب الفلسطيني ولا في الجانب العربي، فيما يرفض المقدسيون من ناحية المبدأ المشاركة في الانتخابات البلدية لما يُسمَّى بـ"القدس الموحّدة"، ولا يوجد لهم أيّ حقوق سياسية، أو آليات لاختيار ممثّليهم أو العمل على إدارة شؤونهم، إذ عمدت إسرائيل بصورة ممنهجة إلى ضرب محاولات التنظيم المحلّي كافّة، أو الاستفادة من مؤسّسات وطنية، كانت قائمةً قبل اتفاق أوسلو (1993) ومغلقة الآن يمنع العمل من خلالها.
مع الاهتمام الضروري والمهم بوضع غزّة، وإعادة البناء، وعودة الحياة الطبيعية للأهل في القطاع، فإن الضرورة ملحّة للاهتمام بالمقدسيين، وللبحث الجدّي من القيادة الفلسطينية، والشقيق الأردن، بالتنسيق مع القيادات المحلّية المستقلّة والعاملة بإخلاص، عن استراتيجية عملية تستطيع أن تعالج التحدّيات، وتصد محاولات الأسرلة والتهويد في القدس الشريف، عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة.