مجنون يتحدث عن مجانين
توحي الجوائز الأدبية وبعض المؤسسات الناشطة في مجال الثقافة بأن الأدب في بلداننا العربية بخير، أو هي على الأقل تعطي انطباعاً بأن حال الأدب اليوم أفضل من حاله حتى الأمس القريب. ولا حاجة هنا للتذكير بأن الواقع يفنّد هذا الوهم.
الخطورة في هذه الحقيقة تكمن في أن الأدب هو، بكل ما تعني الكلمة، القيمة الأهم في الإبداع، الذي هو بدوره جوهر الثقافة. والحديث عن حال أدبي مترد يعني بكل بساطة الإقرار بتردي الثقافة، وقبل ذلك الإبداع؛ فعن أي نقد وعن أي فكر يمكن الحديث، إذا كنا إزاء مجتمعات لا تستطيع التعبير عن نفسها أدبياً، بمستوى إبداعي رفيع.
وفي ذلك، كذلك، إشارة إلى انهيارنا على المستوى السياسي. فعلى هذا المستوى (السياسي)، بالذات، ومن جانب له علاقة بالثقافة، يمكننا أن نرصد أننا أمة لا تستطيع أن تفرض أية مقولةٍ ثقافيةٍ (ناهيك عن ظاهرة) على الثقافة العالمية. وكل إسهاماتنا في ثقافة العالم المعاصرة تقتصر على مجرد مسميات سياسية.
في وقت ما أدخلنا إلى القاموس كلمة "انتفاضة". وبعدها انهار السلم بنا، فصرنا نساهم بمسميات مثل "الجهاد" (بمعنى مشوّه)، و"القاعدة" و"داعش"، ونقلنا كليشيهياتنا الثقافية محملة بمعانٍ منفرة للنفس، فأصبحت عبارة "الله أكبر" نداء إرهابياً متطرفاً، يعني الشروع بذبح البشر وجز رقابهم.
واللافت أن الجماعات التي صدّرت هذه الترجمة المشوهة، حظيت بأنصار حتى بين الأدباء! وهنا، يجب الانتباه إلى أن حال الأدب، وهو جزء من أزمة ثقافة، أثمرت في انهيارها عن ظهور جماعات التطرف. وانهيار الأدب نفسه قاد بعض الأدباء إلى اتخاذ مواقف جهولة، تعادي الحياة، وتنتصر ليوتوبيا جاهلة وظلامية.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى مظاهر انحطاط الأدب في بلادنا. الأدب اليوم بلا دور، لا ينافس بنصه ولا بمبدعيه فنوناً أخرى حديثة بمبدعيها؛ بل إن الأدباء يضطرون اليوم إلى ممارسة فنون وألوان ثقافية أخرى، فبات من المعتاد أن ينتقلوا إلى الإعلام بأنواعه، ويلجأون إلى كتابة السيناريو والبرامج التلفزيونية وغير ذلك.
ويشهد الأدب، في السياق، هجرة داخلية من الشعر والقصة إلى الرواية. وهذه الهجرة، في أحد أهم مظاهرها، تأتي في سياق الجوائز واهتمام المؤسسات في قتل تام لفردانية الإبداع الأدبي وفردانية الخيارات الإبداعية، التي هي جوهر الابداع الأدبي، وأبرز صفاته.
لم يعد الأديب صوتاً متفرداً، بل نوعاً من العمالة غير المباشرة!
هذه الهجرة، كذلك، لم تأت لتعبر عن نضوج ثقافة "مدينية"، لكنها في حجم لا بأس به منها، جاءت محمولة مع اهتمام مؤسسات دول حديثة العهد بالثقافة والابداع. لكن هذا الاهتمام جاء مسبباً على نحو مباشر برغبة تلك المؤسسات في تظهير دولها اجتماعياً، وإعادة كتابة تاريخها الرسمي إبداعياً في صيغة تاريخ اجتماعي، بما يؤمّن أرضية لتصالح شكلي بين السلطة المفروضة والمجتمع المنبوذ.
وهذه الهجرة، بذلك، واحدة من مظاهر انهيار الأدب!
هذا الحُكْم على الأدب في بلادنا العربية لن يبدو ظالماً إذا ما رصدنا اهتمامات الجوائز الأدبية في العالم العربي وتوجهات المؤسسات الناشطة في هذا المجال، ويمكن إيجازها بما يلي:
- أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي تختص بالرواية، وليس هنالك جائزة واحدة منها تختص بالأدب من دون تخصص بالنوع.
- وهذه الجوائز التي تختص بالرواية لا تتمترس وراء معايير ثقافية محددة فحسب، بل وتتمسك بمعايير النوع الأدبي التقليدية، ولا تتعامل مع أي اختراق هنا أو هناك في هذا المجال. وهذا يتناقض مع مهمتها المعلنة في دعم الكتابة الجديدة أو التجارب الإبداعية المختلفة "إسهاماً في دفع حركة الأدب إلى الأمام"!
- أن أهم الجوائز العربية في هذا المجال هي إما جوائز معرّبة، أو مقلدة. وهي لهذا تتبنى اعتبارات مستنسخة عن ثقافات أخرى، وتستورد للأدب العربي حاجات وأولويات وتفضيلات ليست حاجاته ولا أولوياته، وتشجع على تماهي الأدب العربي مع تجارب أدبية غربية بعينها.
- وبالنسبة للمؤسسات، فإنها في الغالب تتعامل مع الإبداع الأدبي بأسلوب الإحسان الخيري في أفضل الأحوال، وفي حالات أخرى بأسلوب تجنيد الأدب وجمع تواقيع التجارب الأدبية على إعلان يشيد بالأخلاق والقيمة الأدبية لـ"المُحسن" أو الممول، الذي قد يكون دولة فاشلة تشتري النجاح بـ"الكاش موني"!
لا أظن أن هناك كثيرين من بين جمهور الأدباء يوافقونني الرأي في هذا، لكن نحن الأدباء، أعضاء مجتمع الأدب العربي، جسم مريض، فيصح ويحق لي أن أهذي في حمى المرض فأقول ما أقول. ويصح ويحق لغيري من الأدباء أن يتجاهلوا مرضهم ولا يلاحظوه ويندفعوا للاهتمام بالإشارة إلى مرضي، إذ أن أبرز وأول علامات المرض والجنون أن يهتم المرضى بتشخيص الآخرين ثم محاولة علاجهم.
وهذا ما أفعله أنا هنا، على وجه التحديد!
روائي وقاص وسيناريست. عمِل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.