مجرد ليبرالي صغير

مجرد ليبرالي صغير
الرابط المختصر

يتردد المرء، للوهلة الأولى، في توصيف ما حدث ويحدث في العالم العربي منذ ثلاث سنوات: أهو طفرة تاريخية تمثل مخاضاً عسيراً لميلاد ما، أم هو حلقة جديدة من حلقات الانهيار العام؛ انفجار حر للإرادة العامة أو الشعبية، أم انسياق وراء برامج مدمرة تصرف في بنوك مشاريع وإرادات خارجية. لذا، هنا، بالذات، يكتسب سؤال الثقافة أهمية خاصة.

أين كانت الثقافة، وأين كان المثقفون في هذه الأحداث. وما هو حجم دورهم، وكيف ومن على أية منصات مارسوا هذا الدور، وما هو مردوده الفعلي، وحجم تأثيره العملي؟

في الإجابة المؤكدة على هذه الأسئلة نصطدم بما يلي: أولاً، من الجلي أن السجالات، التي شارك فيها المثقفون على هامش هذه الأحداث هي، بالأساس، سجالات غير ثقافية. تنتسب بالدرجة الأولى للسياسة المحضة، وتستهلك نفسها تأييداً ومعارضة، ودفاعاً وهجوماً على أنظمة الحكم المعنية، مع غياب ملحوظ للحس النقدي الذي هو سمة أساسية للفعل الثقافي، حتى في حالات انحيازه وانتمائه (ويا للعجب، تحضر في البال، هنا، التجربة السوفيتية المذهلة بوصفها مثالاً معاكساً!).

وبالنتيجة، انسحب المثقف إلى المنصة السياسية، وترك منصته الثقافية!

ثانياً، تَلخّص الجهد "الثقافي" في جندية إعلامية ودعائية. وهذا حدث في ما يشبه استسلاماً طوعياً من قبل الثقافة للسياسة، وتسليم المثقفين بريادة السياسي في الحياة العربية وأولويته، وفي أحيان كثيرة قدسيته.

ثالثاً، أن القسم الغالب من الأحداث العربية، التي سميت ثورات، كانت كما شاعت التسمية "بلا رأس" وبلا قيادة، ومن دون فكرة جوهرية (أيديولوجيا). وجرى تفسير هذه الظاهرة، نقضاً وتبريراً، من منظور سياسي حصراً. بينما النقض والتبرير الحيوي والملح لهذه الظاهرة هو، في الحقيقة، ثقافي. ذلك أن غياب الرأس والقيادة والفكرة هو عملياً غياب لدور الثقافة في هذه الأحداث.

وغياب الثقافة يعني أنها ليست محلية، ولا شعبية، ولا وطنية!

رابعاً؛ جرى الاستعاضة عن الثقافة المؤسسة والفكرة الجوهرية بأفكار شعبوية إعلاموية جوفاء (الحرية. الديمقراطية.. إلخ). أي، بالعُدّة والعتاد الليبراليين المعروفين منذ "زمن سيدنا نوح"، والموظفين لخدمة الأسياد الخارجيين.

وهذا يذكرني بكلام لصديق بعقل مشاكس، يتوجب أن نقرأه مكتوباً، إذ يلاحظ د. فاضل الربيعي أن مأزق المثقف الليبرالي العربي قديم ومستمر؛ فهو لا يزال يجتر الأفكار والمواقف نفسها، التي كسدت منذ بداية القرن الماضي وأخلت بانتماءاته الثقافية والوطنية، من حيث أنها كانت تدفعه على الدوام إلى الترحيب بجنرالات المستعمرين ومديحهم.

طبعاً، والتبشير بالديمقراطية والحداثة التي يفترضون أنه سيأتي بها.

ويورد الربيعي على ذلك أمثلة من تجارب الزهاوي وغيره من أبناء عصره ممن رحبوا بالمستعمر الإنجليزي، ودبجوا القصائد في مديح الجنرال اللنبي، رسولاً للتقدم الغربي، يبيد جحافل التخلف الشرقي، من دون أن ينتبهوا اليوم أن الجنرال اللنبي و"تقدمه" وورثتهما وجدوا في جحافل التخلف الشرقي حليفاً طبيعياً.

وهؤلاء، الليبراليون، لا يؤمنون بانتاج الثقافة، بل باستيرادها جاهزة!

هنا، يبدو واضحاً ضيق النفس الذي يشعره الليبراليون إزاء فكرة "الأيدولوجيا"، حتى ولو كانت علمانية وغربية. إذ هم وكلاء لصانع ثقافة محدد، يعيشون على تسويق منتجاته، وتكمن مصلحتهم في رفض فكرة أن شعوب الأطراف يمكن أن تنتج ثقافة أو فكرة ما.

ومن هنا، فهم يعيشون على حواف المال!

يعيشون على حواف المال، ويتحركون وفق حركته؛ يندفعون مع مده في السياسة، وينحسرون مع جزره فيها، لينزووا في وظائف ساكنة، يملأهم السخط، وتكويهم خيبة الأمل، ولا يبدر منهم قول أو فعل إلا وسمته الأساسية التثبيط..

وهم بالأساس يعيشون مع، وعلى خدمة السياسة!

إذن، هل كنا مجرد ليبراليين حينما اختزلنا الجهد "الثقافي" في جندية إعلامية ودعائية، واستسلمنا وسلمنا الثقافة طوعاً للسياسة، واعترفنا دون غير شروط بريادة السياسي في الحياة العربية وأولويته، وفي أحيان كثيرة قدسيته، وتركنا أنفسنا نذهب في طريق الاستلاب لشخص السياسي.

المؤسف فعلاً، أن الحياة العربية لم تعد تحتمل سوى الليبراليين، وتبدع في اشتقاق صنوف وأنواع وسلالات منهم تناسب مختلف المواقف والأنظمة بأغلفة وألوان متعددة تتناسب مع كل الميول والاتجاهات، وترفع مختلف اليافطات والشعارات.

لم أكن أعرف أنني مجرد ليبرالي صغير، يحاول على طريقته الترحيب بجنرال المستعمرين!

 

روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.