مجرد سهو
أراني، حيال المؤتمرات والملتقيات الخاصّة بأجناس الكتابة، أطرحُ تساؤلي: لماذا تُعقد أصلاً؟ وعند الإجابة المحددة يصير لنا أن نمتحن جدواها وما حققته، قياساً على السبب المعلن.
من جهتي، أفترضُ بأيّ مؤتمر أو ملتقى أن يحدد لانعقاده عنواناً بعيداً عن العموميّة، لكي يصار إلى حصر أعماله بمجموعة أوراق ذات صلة مباشرة بالعنوان المشير إلى الهدف والغاية. كما أفترضُ بتلك الأوراق توفرها على أطروحات وأفكار واجتهادات جديدة لم يسبق أن تم تناولها في مؤتمرات وملتقيات سابقة، وإلاّ تكون قد استنسخت، عملياً، مجموعة تجارب قديمة بأوراق "جديدة" طالها تعديل هنا أو هناك، دون المساس بجوهر المعروف والمتداول.
الأصل في ملتقيات أدبيّة متخصصة أن تولي العناية والاهتمام، وفي المقام الأوّل، بانسجام المحاور واستكمالها لبعضها، فتُرسَم في النهاية صورة شاملة لحالة واحدة بمنظورات متعددة. وكذلك، الانحياز عند الاختيار لتميّز الطروحات وخصوصيتها بناءً على معرفة مسبقة بإنجازات أصحابها ضمن المجال قيد الدراسة والمتابعة - وليس لشيوع الأسماء، والحرص على حصص البلدان، وعدد المشاركين. باختصار: الاعتبار للقيمة والنوعيّة، لا العدد أو الكَم.
الملاحَظ على كثير من تلك المؤتمرات والملتقيات، محليّاً وعربيّاً، انعقادها بعناوين عادةً ما تكون عامّة، بحيث تسمحُ بتجميع أوراقٍ لا تخلقُ بدورها حالةَ حوار وسِجال ثقافيين ومعرفيين بخصوص مسألة إشكاليّة راهنة هي محل خلاف: حوار وسِجال ينخرط فيهما معنيّون حقيقة بهذه الإشكاليّة، ومحيطون حقاً بأبعادها. وللتدليل على هذا؛ يمكن لأيّ مُراجع لكثيرٍ من "أوراق البحث" قراءة تلك الأوراق التي قد تكون ذات معنى إذا نُشرت في مجلة أو ملحق ثقافي، غير أنها لا تشكّل أجزاءً في مشهدٍ فسيفسائي يتكامل، فيفرضُ على القارئ تأملاً وبحثاً بعد انقضاء أيام اللقاء.
وهكذا يضيعُ الهدف وتميع الغاية، ولا يبقى حاضراً في الذاكرة سوى ضجيج التجمهر في بهو القاعات والفنادق. ولا ننسى، في الوقت نفسه، مجموعة التغطيات الصحفيّة الخالية، في الغالب الأعمّ، من أيّ تحليل لمجريات الجلسات (عابر سريع أو عميق)، والصور الجماعية والفردية، وكلمات الافتتاح والختام وورقة التوصيات غير القابلة للتطبيق، كالعادة - اللهم سوى الإصرار على مواصلة انعقاده في موعده السنويّ، لحصد المزيد من الانجازات المعرفية! وكأنّ هذا هو ما ينبغي الحرص على أرشفته داخل ملّف يُرْفَع لمسؤلي الجهة "الراعية" أو "المنظمة"، كشهادة على "نجاح الفعاليات"، وبالتالي على مبرر الاستمرار!
ليس جديداً القول بأنّ اللازمة، خلال وبعد أيام تلك المؤتمرات والملتقيات، المتداولة بين "المؤتمرين والملتقين"، هي:
* صحيحٌ أننا لم نجد جديداً لافتاً، ولم نخرج سوى بحفنة قليلة من أوراق ذات مستوى؛ لكننا اجتمعنا وتعارفنا (وهذا أفضل ما في مؤتمراتنا وملتقياتنا) إذ من دونها ما كنّا لنلتقي. فأنتَ في القاهرة، وأنا في عمّان، وهو في الرباط، وهي في صنعاء، والأستاذ في دمشق، والبروفسورة في لندن، إلخ!
أما الغريب، فيتمثّل في سهو جميع المشاركين الذين سجلّوا على اللقاء افتقاره لأوراق تتحلّى بالمستوى المأمول، عن أنهم، هم أنفسهم مَن لم يتقدم بها!
مجرد سهو، لا أكثر، وكلّ عام وأنتم على مؤتمر وملتقى.
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.