مثل عارضة أزياء

مثل عارضة أزياء
الرابط المختصر

بدأت تغزو بالي، على نحو مفاجئٍ، صور أناسٍ مرموقين ومشهورين كفاية، لم يقتنوا أكثر من لباسيْن (واحد يرتدونه والآخر في الغسيل)، ومع ذلك كانوا بالغي الأناقة دوماً، متجددين في مظهرهم. بل يبدون جذابين على نحو غير عادي.

جعلني هذا أقف أكثر من مرةٍ أمام خزانتي، وأتأمل كم فيها من ملابس، بعضها باهظ وبعضها الآخر "ماركات" لا أعرف متى بدأت الاعتداد بها. ومع ذلك، لم تمنحني أكثر من الشعور بأنني مغطى بخرق تستر عورتي. ولم أبلغ يوماً ربع أناقة هؤلاء الناس المتقشفين!

وقفةٌ بعد وقفةٍ أمام خزانة ملابسي بدأت أفكر بأمور أخرى؛ لقد راعني عدد ما أقتني من قطع الملابس المختلفة. وفطنت إلى أنها كثيرة لدرجة أنني مضطر على الدوام إلى تخزين جزءٍ منها في الحقائب تماشياً مع الفصول. ولم ألبث أن اكتشفت أن خزانتي تفوق بأضعاف خزانة زوجتي المشغولة بأطفالنا؛ وفي الحال خطر ببالي السؤال: متى تحوّلت إلى عارضة أزياء؟

لم أستطع الإجابة على هذا السؤال، وبقيت حائراً في تحديد اللحظة التي أصبت فيها بعدوى شراء الملابس بلا حسابٍ، وتكديسها متراصةً في الخزانة والحقائب. غير أنني كنت متأكداً أنها كلها كانت تلزمني في شيءٍ واحدٍ: أن تحقق لي ما تحققه قطعتين من الملابس لأولئك الناس المتقشفين. وأن ذلك بقي بعيد المنال، وأنني لا أفعل شيئاً سوى عرض منتجات الملابس التي ينتجها صناعٌ وشركاتٌ متعددة لا تأبه بي ولا تعرفني أساساً، وتوظف عارضين محترفين لمنتجاتها، وهو ما دعاني لأن أتساءل: كيف تحولت طوعاً إلى عارضة أزياء؟

انتبهت في الأثناء إلى أن قائمة الكتب التي تضمها مكتبتي قد تقلصت بالتزامن مع تضخم خزانة ملابسي. وانتابني للوهلة الأولى شعورٌ بالكارثة، لكني سرعان ما تنبهت إلى أنني ما أزال أقرأ بالكثافة نفسها، وربما بأكثر مما كنت أفعل، بمعونة الانترنت. وهذا قادني إلى الانتباه إلى أن المعرفة الحرة (بعيداً عن المدارس والجامعات والتعليم الرسمي) تصبح أقل كلفةً وفداحةً، ولم يعد من الضروري إعدام الغابات لتوفير القراءة في كتاب ورقي. لكن بالمقابل ثمة استهلاك (إهدار) هائل في كماليات حياة الإنسان الأخرى. الكماليات التي تحول الإنسان إلى عارضة أزياء أو منتجات!

وانتبهت هنا إلى أن تجارة الكماليات تثير الكثير من المعارك الطاحنة بين الشركات ورؤوس الأموال الكبيرة، وتصل في مراتٍ إلى حروب طاحنة بين الدول نفسها. وتقود دائماً إلى اجتراح أساليب فادحة للغاية في استغلال البشر، واستنزاف الطبيعة وموارد الأرض، وتسهم على نحو كارثي في خلق وتوسيع نطاق ظواهر الفقر والحرمان وتغييب العدالة الاجتماعية على مستوى العالم. والأدهى، أن جزءاً مما تحققه هذه التجارة من وفْر مالي يذهب نحو تمويل الحروب وتكريس قوانين وأنظمة تحد من حصول الإنسان على حقوقه البديهية والطبيعية، وتحول الإنسان من كائن معرفي وأخلاقي إلى حيوان استهلاكي.

والأسوأ، أن هذه التجارة باتت من القوة والتوسع أن مدت يدها إلى الحقوق الطبيعية (الضروريات الإنسانية) وحولتها إلى "كماليات" تجارية، فأصبح لدينا ما يسمى بالتعليم الخاص على مستوى رعاية الطفولة والمدارس والتعليم العالي، والطبابة الخاصة التي يموت المريض فيها على باب المستشفى إن لم يكن لديه تأميناً صحياً أو لم يكن بمقدوره مد يده إلى جيبه، وأصبح حتى العراء والشارع ممنوعين على نوم من لا يملك المال.

وحق الفقراء في العمل أصبح، هو نفسه، تجارة رابحة، تدر المال للأغنياء!

ولا يمكنني في الأثناء أن أشيح النظر عن حاويات النفايات المليئة بالملابس وبكل أنواع الكماليات الأخرى، وتجارة "البالة" الهائلة التي تجاوزت الملابس إلى الألعاب والأجهزة الإلكترونية والأثاث بأنواعه ومستوياته، وهو ما ينبئ عن نمط استهلاك جائر، معادٍ للإنسانية ولقيم العدالة الاجتماعية. استهلاك جائر يحوّل حتى المستهلكين أنفسهم إلى عارضين ومروجين.

سأظل أتساءل لوقتٍ طويلٍ حول ذلك، وسأحاول أن أتذكر متى وكيف أصبحت عارضة أزياء متطوعة، ولكن الأهم أن أتمكن مثل أية عارضة أزياء من اختيار لباسين من خزانتي ملابسي الخاصة المليئة بالقطع، التي تفوق حاجتي لستر عريي وتوفير الدفء لجسدي، لعلهما يمنحاني تلك الأناقة والبهاء الذي يبدو عليه أولئك المتقشفون!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك