مثل بقرة

مثل بقرة
الرابط المختصر

 

يصور فيلم كوميدي روسي من عهد يلتسين، ينتقد الفوضى التي يمكن أن تجلبها «الديمقراطية الغربية» المفرغة من معناها الاجتماعي، مشهداً تقتحم فيه بقرةٌ مدرج طيران عسكري، وتقف أسفل مقاتلة في وقت إقلاع، وتعلق بعدة الهبوط (محور رفع العجلات)، وحينما تقلع المقاتلة، يرفع قائدها العجلات ويحشوها في بطن الطائرة، فيجمع معها البقرة. ويندهش المشاهد، الذي يعرف أن التصوير واقعي ولا يلجأ إلى الخدع السينمائية، أن البقرة الضحمة وجدت متسعاً في متن المقاتلة.

 

أتذكر اليوم هذا المشهد بينما تحلق المقاتلات والمطاردات الروسية في سماء سوريا، وأرى في البقرة أوهامنا الكثيرة، المتعددة الأوجه والانحيازات، ولا أجد شيئاً مؤكداً سوى أن بعض الطائرات الروسية، التي يحسبها بعضنا مجرد لعبة حربية صغيرة بأبعاد محدودة، أضخم بكثير من خيالنا حينما نحلم بالبيت، الذي نود أن نبنيه، وتتسع لقطيع كامل من أبقار الوهم التي تستبيح حقولنا.

 

«ربِّ الأيائل يا أبي، ربِّها»!

 

وهنا، لا يمكنني التورط في تصديق النفاق الأوروبي الهزلي، ولا أجد مجالاً للشك أن المقاتلات الروسية تجد بدقة أهدافها في سوريا وتتعامل معها، لكني أفكر كثيراً في بقرة الأوهام العالقة لحظة أن يقوم الطيار بإجراءات الهبوط، ويحرر العجلات. ويتردد في أذني صوت ارتطامها المدوي بالأرض!

 

وأوهامنا من جهتين، ومعسكرين، ليست متعلقة كما نحسب بطبيعة الدور الروسي، أو الموقف منه، إنما بموقعنا من الجهتين في العالم، وحجمنا الذي يتناسب فعلاً مع مقاتلات بأحجام الألعاب الحربية الصغيرة. وهذه الأوهام، للأسف، ليست مجرد أوهام سياسية، بل أفكارا ًغير واقعية حول الذات، تجعلنا نعتقد أننا على خير ما يرام، وأن كل ما كان يلزمنا هو موقف سياسي صحيح. وهذه الأوهام، نفسها، وبذاتها، تطعن بعلاقتنا بثقافتنا، أو هي تكشف حجم الأوهام في ثقافتنا، التي أنتجتها أيام سياسية منذ أواخر الأربعينات، وخسارة فلسطين وحتى اليوم.

 

وللتوضيح الجزئي، يمكن الانتباه إلى أن القطيعة الروسية مع الاتحاد السوفيتي خلال تسعينات القرن الماضي، وهي أسوأ سنوات القطيعة التي ضربت الجذور الثقافية في صلبها، لم تستطع أن تمس أو تصيب الحقل العلمي، في كل مجالاته: الإنسانية، والتطبيقية، والبحتة. ما يجعلني أتساءل اليوم: هل تزدهر ثقافة ما، من دون علوم؟ وهل الفنون الأدبية والتصويرية والتجسيدية قادرة لوحدها على صنع مثل هذا الازدهار؟

 

وهنا، بالذات، يمكنني الوقوع على الفارق بين الانحطاطين العربي والأوروبي المعاصر، بحقائقه المفزعة. فالانحطاط الأوروبي مسند بالقوة من جهة، ومستور بالعلم من جهة أخرى. ويوم «ميلاده» الحاسم ليست حرباً فاشلة، بل وفاة قامة علمية. أعني برتراند رسل، الفيلسوف وعالم المنطق والرياضي والمؤرخ والناقد الاجتماعي البريطاني، الذي كان ليبرالياً واشتراكياً وداعية سلام، لكنه في أواخر حياته توصل إلى أنه لم يكن أياً من هؤلاء بالمعنى العميق (!)، تماماً مثل أحد أفضل العقول العلمية والماركسية في العالم العربي، لدينا، الذي توصل أخيراً أنه ربما لم يكن ماركسياً «بالمعنى العميق»، في أي مرحلة من مراحل حياته (!)، في وقت، فيه «إمام الأمة» أبو بكر البغدادي الزعيم الأبرز لـ«الوجودية»، بأقصى معانيها العدمية!

 

طبعاً، توصل برتراند رسل إلى نتيجته الخرقاء، في أواخر حياته، في إعلان يشهر دخول أوروبا في مرحلة الانحطاط العميم، ويقدم لنزول أوروبا الدرج من خيانة التاريخ والإنسانية والفكرة الباريسية التي امتدت حتى عهد فاليري جيسكار ديستان، إلى فقدان الحس الإنساني تماماً في عهد أولند. ويتنبأ بتحول بريطانيا إلى مجرد ورم أوروبي، لا يعني شيئاً أمام مأساة الموت!

 

وفي هذه اللخبطة، التي تتضح فيها صلة السياسة بالثقافة، يمكن التنبه إلى أن برتراند رسل هو حفيد رئيس وزراء بريطاني، شكّل الحكومة لمرتين. وابناً لوالدين صادمين في أفكارهما وسلوكهما للجمود البريطاني، المتمسك ببروتوكول عصر «النهضة الإنجليزية»؛ ورسل يشبه في يومنا الحاضر، في سيرته ومواقفه، محطة تلفزيونية «خاصة» تبتدع أساليب لإثارة المشاهدين، وأخرى لتحفيز الممولين.

 

وفي هذه اللخبطة، ذاتها، عليّ أن أذكر بأنني، بوصفي مشاهداً ملتزماً، أخص هذه «المحطة التلفزيونية» باحترام دقيق. ويروق لي تقريرها الصحفي عن لقائها في 1920 مع لينين، وتطربني بالتحديد العبارة التي توصف الثوري الروسي، وتقول إنه «يشبه بروفيسوراً متشبثاً بآرائه»، وأوافق عليها بإعجاب تماماً!

 

والآن علي أن أقول إن قصف الطائرات الروسية لم يصب مقرات «داعش» فقط، ولا أوكار جبهة النصرة وحسب، لكنها فجرت الكثير من الأفكار في الرأس، وتجعلني أخشى أن أكون انتقلت من الصراحة إلى الوقاحة، ما يدفعني إلى أن أختم بقصيدة:

 

«مُسْتَسْلماً لخُطى أَبيكَ، ذَهَبْتُ أَبحثُ عنكَ يا أَبتي، هناكْ. عند احتراق أَصابعي بشموع شوْككَ. عندما كان الغروبُ يَقُصُّ خَرُّوبَ الغروبِ. وعندما كنا، أَنا وأَبوكَ، يا أَبتي، وراءك وَالِدَيْكْ. أَنتَ المُعَلَّقُ فوق صُبَّار البراري من يديكْ، وعليكَ صَقْرٌ من مخاوفنا عليكْ. وعليك أَن ترث السماء من السماءْ، وعليكَ أَرضٌ مثل جلد الروح تثقُبُهُ زهورُ الهِنْدباء».

 

وربما، هنا، علي أن أعود إلى أمي لأسألها عن الهندبا، وكيف أصبحت مثل بقرة علقت بعدة هبوط مقاتلة!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك