مثـلث الخراب

مثـلث الخراب
الرابط المختصر

 

 

 

ماذا لو اغتاظَ الواحد منا، على وقع خبر تسريب (وليس تسرُّب) أسئلة الامتحانات الخاصة بالصفين السادس والتاسع، ونَشْر بعضها على مواقع التواصل الاجتماعي قبل إجرائها بيوم، وقال مختصراً الحالة: إنه الفساد في حدوده القصوى، وليس من طَرَف من أطراف المنظومة التعليمية والتربوية بريء منه: الوزارة، والإدارات المدرسية، والمعلّمين – ذكوراً وإناثاً على السواء.

 

أصوات، ودعوات، ونداءات، واستغاثات، وتحذيرات ملأت السنوات العشرين الأخيرة تطالب بإعادة النظر بكليّة الوضع التعليمي، في كل مراحله؛ إذ لم يعد خافياً على أحد أنَّ تدهوراً خطيراً أصابه في ركائزه. بداية من الكتاب المُنَفِّر الجاف البغيض، بما يعني المناهج والكيفية في صياغتها وأدواتها. مروراً بكتائب من معلّمين ومعلّمات شكلت لهم هذه "الوظيفة" طوق النجاة من بَطالة شبه أبدية، بعد التخرج، تولوها وإنْ لم يكونوا مؤهلين لتحمل مسؤوليتها. وليس انتهاءً بإدارات مدرسيّة أصابها اليأس وأماتها الملل، أو دُفِعَت نحو التميّز الكاذب في منافسة ليست عادلة، أو أغراها الربح المالي أوّلاً وأخيراً بوصفها مسؤولة عن مشروعات استثمارية.

 

نقابة المعلّمين تتهم الوزارة بالتخبط، والوزارة تتنصل وتلقي بالتهمة على المعلّمين وإدارات مدرسية، والإدارات تتهرّب أو تتذرع، إلخ. زوبعة جديدة قد تتحول إلى عاصفة. ولِمَ لا؟ فلتتحوّل إلى عاصفة، ما دام الأمر بلغ حدّ التسريب العَمْد للأسئلة من أجل عدم إماطة اللِثام عن فضيحة المستوى العلمي الهزيل لدى الطلبة. مستوى هابط يجيء نتيجة مثلث الخراب التالي:

 

* مقررات لا تتواءم والإنجاح التلقائي/ التلفيقي حيث يواجهها طالب بلغ مرحلة لم يستحقها، إذ يفتقر للأساس اللازم لتخطي امتحانات الجدارة، عندها يصبح الفشل أمراً حتمياً. فما العمل؟

 

* إدارات مدرسية، حكومية وخاصة، تتهرّب من هذه الحقيقة بالإمعان في إطالة أمد الإنجاح التلفيقي، الكاذب. وهذا لا يحدث من دون توفر معلّم/ معلّمة على استعداد لارتكاب عملية تزوير خالصة. ليس هذا وحسب؛ بل عملية تزوير يكاد يتساوى فيها الطالب المفتقر لمؤهلات النجاح بزميله المجتهد المثابر الأعلى مستوى، ما يفتح المجال واسعاً ومبكراً للقبول بمبدأ اللاعدالة أو الرضوخ له. وهذا ما نعاينه، في ما بعد، داخل الجامعات تحت مسمّى "المكرمات الملكية"، و"الأقلّ حظّاً"، إلخ.

 

* وزارة التربية التي أقرّت منذ سنوات وسنوات مبدأ الإنجاح التلقائي/ التلفيقي الكاذب، لسببٍ ما لست أعرفه، لكنني أتساءل عنه الآن وعن "الحكمة" التي تدعو إلى عدم اجتثاثه أصلاً، أي من السنة الدراسية الأولى. أما أن نستحدث هذا الامتحان الخاص بالصفين السادس والتاسع لمجرد "معرفة" مستوى طلبة هاتين المرحلتين؛ فإننا لا نعدو أن نكون كأننا نخدع أنفسنا! أولسنا نعرف، ونعرف، ونعرف!

 

وها نحن نحصد ما زرعته حكمة الإنجاح الكاذب: تخبط وارتباك مفضوحين تعيشه جميع أطراف المنظومة التعليمية. وللحيلولة دون ظهور فضيحة المستوى الهابط على حقيقتها، يحدث التسريب للأسئلة لتزييف النتائج الدالّة على الواقع المر. أي نتمادى ونتمادى فنصل إلى ممارسة الفساد والإفساد بوعينا الكامل!

ما معنى ذلك كلّه؟

 

معناه أننا عملنا، وما زلنا نعمل على الهبوط بمستوى المعرفة والتأهيل لدى أجيال وأجيال. معناه أننا، وبالوعي إيّاه، شاركنا في تضخم حجم البطالة في سوق العمل يحتاج الكفاءات ولا يجدها. معناه أننا أفقرنا مشاريعنا "الوطنية" تدريجياً؛ إذ ليس بين كتائب المتعلّمين الخريجين من أبنائنا مَن هم في مستوى المهام المنوطة بهم. معناه أننا، في ما يتعلّق بالتراتبية التعليمية، قد استكملنا تعبئة حلقة من حلقات آلية الفساد والإفساد الآخذه بمفاصل حياتنا اليومية.

 

فساد وإفساد تمأسسَ، وتجذرَ، ونهضَ مارداً يظلل مجتمعنا. وبدورنا نتطلع، فلا نرى مستقبلاً ينتظر أحفادنا، على صعيد التعليم، سوى مثلث الخراب الذي أشرت إليه. خراب لن يقودهم، إذا لم تُراجَع آليات هذا التعليم على نحو جذريّ شامل، إلّا إلى أحد هلاكين:

مهاجرون إلى "شواطئ الأحلام" في توابيت تطفو أو تغرق في أعماق البحار.

أو مقاتلون لليأس بيأسٍ أعمى يحفر لهم قبورهم.

وبعد: هل نصفّق لمن أوصلونا إلى هذه المصائر البائسة؟

فلنفعل؛ لقد نجحوا تماماً في مهمتهم.. وأولى خطواتها كانت التعليم.

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.