دُعيت قبل سنوات إلى عشاء لإعلاميين في قصر ألماني تاريخي من عصر الأباطرة. تصادف جلوسي إلى جانب صحفية ألمانية تدعى "بترا" (لا تعرف شيئاً عن البتراء!)، وقبالتي صحفي بريطاني شهير متقاعد من الـ"بي. بي. سي"، إلى جانبه شاب هندي من نشطاء الإعلام الجديد.
أسهب الصحفي البريطاني في الحديث عن رواية "مزرعة الحيوان" للكاتب جورج أورويل. سألتني "بترا" همساً: هل لديك أدنى اهتمام بهذه الرواية؟ هل تهتمون بها في الشرق الأوسط؟ أجبتها: طبعا. وفي الأردن، درسناها في الثانوية العامة ضمن مساق اللغة الإنجليزية.
ما تزال الحيرة قائمة في وصف أحداث العالم العربي في السنوات الأخيرة؛ هل هي الربيع العربي؟ يرفض البعض هذه التسمية، لأنّه غير متفائل بنتائج المرحلة، أو لأنّه يرفض استنساخ الاسم من التجربة الأوروبية، تيمناً بربيع براغ العام 1968، عندما عاشت تشيكوسلوفاكيا محاولات إصلاح في النظام الاشتراكي، انتهت بغزو سوفييتي. ويرفض البعض مسمى ثورة لأنّه يعتقد أنّ الثورة تتطلب وجود قيادة وأيديولوجيا وتنظيم. ومع تصاعد أحداث مصر، يزداد الحديث عن الفرق بين الثورة والانقلاب.
في مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، يتبنى لاجئ شاب يافع في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي الفكر الوجودي. وبعد قليل من النقاش، يتضح أنّه لا يعرف شيئا تقريباً عن الوجودية. وهذه حالة كثيرين دخلوا منظمات وادّعوا تبني فكر ثوري مُعيّن بدون أن يعرفوا الكثير عنه، ولكن هاجس التغيير كان ديدنهم. ويخبرني مناضل مصري وكاتب متميز أنّه ترك مصر منتصف السبعينيات وانضم إلى الشهيد خليل الوزير، ليتعلم كيف يطلق ثورة عندما يعود إلى مصر، ولكنه بقي مع الثورة الفلسطينية. وأذكر أنني في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أردت أن أفهم ما هي الثورة، وكيف تعمل. فانكببت أقرأ كتباً، بدءا من "معالم في الطريق" لسيد قطب، ومراحل حزب التحرير في استجلاب النصرة والانقلاب، وأفكار الأحزاب الشيوعية عن الحزب الطليعي الذي يحرّض ويعبّئ الجماهير، ومراحل حركة "فتح" من النواة الصلبة والحركة الفلسطينية، إلى الجبهة العربية المساندة، فحرب التحرير الشعبية.
لفتني التشابه بين الإسلاميين والشيوعيين و"فتح" في وصف مراحل الوصول إلى الثورة. وساعدتني "مزرعة الحيوان" عن تجربة انحرافات الثورة الروسية، في فهم مظاهر الانحراف بين الثوّار والناشطين بمختلف تياراتهم. ولكن ما لم أستطع فهمه تماماً هو متى تقوم الثورة ولماذا؟ لم أقتنع بالفكرة الشيوعية عن الطبقة العاملة، وإن أعجبتني مقولة "لينين" أنّ الثورات "تنشأ عندما يتوصل عشرات الملايين من الناس إلى استنتاج بأنّه لم يعد بالإمكان العيش على النحو القائم". بالتأكيد، تساهم عوامل الاحتلال والقمع والظلم في تفجير ثورة، ولكن ما هي أهداف الثوّار حقا؟ ولماذا ينحرفون غالبا، كما في رواية أورويل؟ بدت لي فكرة الحاكمية عند قطب فضفاضة، والاشتراكية غير واقعية، وحرب التحرير الشعبية عند "فتح" مشوشة، خصوصا في ظل الحالة المستحيلة للجغرافيا والسياسة.
بدت أفكار الثورة الفرنسية والليبرالية جّذابة؛ تسمح بمفهوم شامل للثورة. جذبتني أفكار عن أهمية أن يكون للعقل البشري قوانين النور الخاصة به، لكي يفهم القوانين التي تنظم الكون، ولكي يستطيع إعادة بناء هذا الكون بالفكر مجدداً. جذبتني فكرة منظري الثورة الفرنسية عن الله والطبيعة والإنسان "استمد فولتير من نيوتن ومن القوانين التي تنظم السماء ذات النجوم فكرة عقل أسمى وفكرة مهندس أعظم؛ وهكذا آمن روسو بالانسجام بين مخلوقات الكون والحلم في إدخال الإنسان في هذا الانسجام". وجذبتني أفكار روسو عن المواطنة والمساواة بين البشر. وتوقفت عند أفكار جون ستيوارت مِلّ عن تفوق طغيان المجتمع أحياناً على طغيان الحاكم.
على أنّ هذه الأفكار فضفاضة وعامة، وغير محددة المعنى، ورومانسية. هذا فضلا عن أنّ الثورة الفرنسية كانت دموية، وأن منظري الليبرالية الأوروبيون نظّروا للاستعمار وبرروه.
تخيّلنا لسنوات أن عصور الشعوب والثورات انقضت، ولكننا عُدنا إليها.
نحن بحاجة إلى التفكير بعمق في معنى الثورة. وعلى من يعتقد أنّه ثوري، مُطالب أن يجلس مع نفسه ويُحدّد ما الذي يريده وكيف سيبلغه، وأن يعلن هذا ويلتزم به.
تاريخ الثورات مليء بالثغرات والدروس التي يجدر تعلّمها. ويبقى أهم سؤال: ما الذي يريد الثوري تغييره حقاً؟ أم أنّه يقاوم التغيير باسم الثورة؟
الغد