لماذا فرح الأردنيون بانتهاء حكم الأسد؟
استغرق الأمر ما يقارب 14 عاماً لكي يشعر العرب، أخيراً، بفرحة الخلاص، ليس بالضرورة أن تكون سوريّاً لينزاح عن صدرك عبء حزن وانكسار عقود من الاضطهاد، يتلوّن بألوان أعلام هذه "الأمة العربية الواحدة" المتشرذمة، كل حسب مقاسه وموقعه ونظامه السياسي وحكوماته لمن تتبع ولما تميل.
سكنت هذه الغصّة العربية التي لم تغادر عديدين منا، أوطانا سنواتٍ وعقوداً لم يخفّفها تعاقب حكومات ولا أنظمة، بل زادتها حروباً دامية، حطبها لسان عربي، على امتداد الجغرافيا الممتدّة في هذا الشرق الذي يجري تهديدُنا منذ سنوات بأنه سيكون جديداً، ولكن هذا الجديد، بطبيعة الحال، لن يحمل ما يسرّ. ورغم الغموض الذي يلفّه في المقبل من الأيام، إلا أن المشهد فيه يبدو واضحاً في منعطفاتٍ كثيرة، فلن يبقى الحال كما هو عليه، وسيجري تقسيم المقسّم، ويصبح عدو الأمس صديقاً وحليفاً، وصديق الأمس عدواً ومطارداً، وربما يكون متهما ومُحاكما، لكن لسان حال المقهورين عقوداً، والمطاردين في أصقاع الأرض والمعذّبين في الزنازين والمفقودين في غياهب المعتقلات، يقول: لا يهم، لنتنفس هواء الحرية ونخرج العفن من أقبية الجلادين وأهلا بالمجهول، على الأقل هو خيارنا ونحن أوْلى في التعاطي معه، أصبحت لدينا خبرة كافية: سنخلع أياً كان فقد خلعنا الطاغية!
الأردنيون وهم يراقبون ما يحدُث في الجارة سورية التي طالما تقاسم الناس فيها معا لقمة العيش واختلط الدم نسباً وقربى على امتداد سنوات، فالجنسية السورية، بحسب الإحصاءات، الثانية بعد الفلسطينية للزواج بين الأردنيين رجالا ونساء، فهناك عائلاتٌ تمتد بين الحدود، ويسكن الأخ في درعا والآخر في شمال الأردن. لم ينس الجانبان أننا كنا وما زلنا "بلاد الشام" نتنفّس هواءً واحداً ويجمعنا تراثٌ وقيم واحدة. لذلك لم يكن الأمر صعباً في استقبال ما يزيد عن مليون و300 ألف لاجئ سوري اتفق في الأردن على تسميتهم ضيوفاً.
هناك عائلاتٌ تمتد بين الحدود، ويسكن الأخ في درعا والآخر في شمال الأردن
وبعد الأزمة السورية، ربما استمع كل بيت أردني مباشرة من سوري قصته، ولماذا هرب بحياته وعائلته، لينجو من فظائع الأسد ونظامه، حفاظاً على نفسه وشرفه وكرامته. وما تقاذفته القنوات الإخبارية بعد سقوط الأسد من قصص أثبت ذلك، فلا فرق بين رجل أو امرأة أو طفل في نظر السجان، فالجميع هناك مستباحون. ولذلك كانت فرحة الأردنيين، كما فرحة إخوتهم العرب، صادقة بهروب بشّار الأسد وانتهاء كابوس حكمه، فمن استجار منك في لحظة خوفه وهلعه وأجرْتَه بلا منّة لا يستوي إلا أن تشاركه فرحة خلاصه، كيف لا والأردنيون جميعا يعرفون ما كان يعانيه الشعب السوري من عذابات. وفوق ذلك، عانى أردنيون عديدون من العذابات نفسها عندما اعتقل النظام أبناءهم، وخرج بعضهم بواسطات ورشاوى وإفراجات مفاجئة غير مفهومة، وثمة منهم من أمضى نحو 40 عاماً تحدّثوا عن معاناتهم في تلك المعتقلات، وما زالت 236 عائلة تنتظر الإفراج عن أبناء أو اقارب لها معتقلين في السجون السورية ومنهم نساء، تنفس بعضهم الحرية عند فتح المعتقلات، وما زال مصير أغلبهم مجهولاً.
ربما لم يُظهر الأردن الرسمي، بصراحة، موقفه، كما أظهر الأردنيون فرحتهم في شوارع العاصمة عمّان وتوزيع الحلوى في مناطق عديدة، لكن الموقف الأردني رسمياً واضح، أنه مرتاح لما حصل، غير أنه ينتظر ويراقب بحذر ما سيحصل، ويتمنّى، بشكل واضح، أن تتحقق وعود الحكم الجامع والمتعدّد للطيف السوري الواسع، ويجري ضبط المظهر المتشدّد لمن كان له الفضل بتحرير سورية الجديدة، وأن تطوى صفحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمظاهر المتطرّفة التي طالما أقلقت الأردن وأجهزته الأمنية على الحدود الشمالية، وبخاصة في السنوات الأولى للثورة السورية. ولا مجال، بل لا يمكن السماح لعودة مثل هذا التهديد، بعد أن قطع الأردن وجيشه وأجهزته هذا الشوط في السيطرة وقطع الطريق أمام تلك الجماعات للتسلّل عبر حدوده، وهذا أمر لا مساومة عليه.
ما عدا ذلك، يشكل الوضع في سورية، وبناء على ما سيكون، فرصة للأردن للخلاص من المرحلة السوداء السابقة، والعلاقة المضطربة والمتوترة مع النظام السوري منذ زمن حافظ الأسد والتي انتقلت إلى زمن نجله بشّار، إذ يراهن الأردن على انتهاء التدخل السوري المستمرّ في شؤونه الداخلية، والالتزام بالوفاء بالتزاماته المتعلقة بحصّة الأردن المائية السنوية في نهر اليرموك، المقدّرة بـ375 مليون متر مكعب، وبالتأكيد انحسار التهديد الإيراني، وانتهاء كابوس تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود الشمالية، وقد أعلن الأردن بحزم حرباً على العصابات التي كانت تعمل مباشرة لصالح الأسد وعائلته، ومدّها بمليارات الدولارات لتجاوز الحصار الخانق على سورية والذي استمرّ حوالي 15 عاماً.
لطالما رغب الأردن بأن يغيّر نظام الأسد سياسته مع دول الجوار وينهج نهجاً إصلاحياً حقيقياً معتدلاً
إنها فرصة لأن يتخلّص الأردن من الجدل الدائم مع المجتمع الدولي الذي تراجع بشكل كبير عن الوفاء بالتزاماته تجاه الدول المستضيفة للاجئين، وأهمها الأردن الذي يعاني اقتصادُه، كما هو معروف، حيث لم تتجاوز نسبة الاستجابة لاحتياجات خطة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية لعام 2024 نسبة 6.8%.
وبالتأكيد، لطالما كانت سورية شرياناً حيوياً للنقل والتبادل التجاري مع الأردن، والذي إن هدأت الأوضاع سيكون مصلحة مشتركة للبلدين يجري فيها إنعاش الاقتصاد في كليهما، فإعادة فتح الحدود فرصة لإحياء اتفاق تمرير الكهرباء والغاز من الأردن إلى سورية ولبنان المحتاجين الطاقة، وتوفير فرص لشركات البناء والخدمات الأردنية للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، المعروف أنهات تحتاج استثمارات ضخمة تُقدر بمئات مليارات الدولارات، ما يوفر فرصاً استثمارية واعدة، بل ربما عودة آمنة للاجئين للمشاركة في بناء سورية الجديدة.
في المحصلة، لطالما رغب الأردن بأن يغير نظام الأسد سياسته مع دول الجوار وينهج نهجا إصلاحيا حقيقياً معتدلاً، ولا ننسى تصريحا للملك عبدالله الثاني عام 2011 طالب فيه الأسد بالتنحّي والاستجابة لرغبة شعبه، عندما قال بصراحة "لو كنت مكان الأسد لتنحّيت". واليوم وبعد ساعاتٍ من هروب الأسد ترأس الملك اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، أكّد فيه "وقوف الأردن إلى جانب الأشقاء السوريين واحترام خياراتهم وإرادتهم". وبالتأكيد سيمتد تأثير إعادة تشكيل المشهد السوري الداخلي، الذي يؤمل أن يكون إيجابياً، ليطاول الدول المحيطة به الأردن، العراق، تركيا، لبنان، وبطبيعة الحال إسرائيل ودول الخليج العربي.