"سورية الجديدة"... الدين والدولة ومستقبل التيّار الإسلامي

الرابط المختصر

يتجاوز السؤالُ الرئيس عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وهيئة تحرير الشام ودورها الجدلي في مستقبل سورية، مسألةَ البعد الشخصي أو الحزبي، بمعنى أن السؤال الجوهري ليس عما إذا كان الجولاني أو هيئة تحرير الشام (أيّاً كانت الصيغة التي ستؤول إليها سياسياً، حزباً سياسياً أو تحالفاً أيديولوجياً...) سيكونان طرفيْن مهيمنين في المشهد السوري المقبل، بل تتعلّق القضية الجوهرية بصوغ العلاقة بين الدين والدولة في سورية، في المرحلة المقبلة، سواء على صعيد الدستور وتأطير العلاقة بين الأطراف المختلفة، أو مفهوم الدولة الذي سيتشكّل عبر النصوص الدستورية والتشريعات المختلفة، وهو أمر لا يتعلّق فقط بالشأن السوري، بل مثّل قضيةً جدليةً طغت على نقاشات النُخَب السياسية وجدالاتها في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" (2011)، سواء في ما يتعلّق بلجان إعداد الدساتير، أو في ما يتعلّق بالتشريعات والانتخابات النيابية، وهي الجوانب الأكثر أهمية في سياقات الصراعات الداخلية المرتبطة بسؤال الهيمنة الثقافية والقِيَمية داخل المجتمع.


تأخذ المسألة في سورية أبعاداً مختلفة، ومرتبطة بطبيعة المجتمع والدولة في سورية، وبالسياقات التاريخية المعاصرة، ولعلّ التخوّف من إقامة دولة إسلامية أصولية على غرار حركة طالبان أمرٌ (كما يراه كاتب هذه السطور) مستبعدٌ، لعديد من الأسباب، منها ما يتعلّق بالانفتاح والبراغماتية التي أبداها الجولاني، في الأيام العشرة الماضية، ومنها ما يتعلّق بطبيعة المجتمع السوري نفسه، الذي يميل إلى الانفتاح والاعتدال، والابتعاد عن التطرّف الديني، كما هو في الصيغة القاعدية والداعشية، وهو الأمر الذي يفسّر كيف تمكّن الجولاني من أن يتخلّص من العناصر والقيادات الذين شاركوه في تأسيس جبهة النصرة سابقاً، وأغلبهم من العرب، وبخاصّة الأردنيين (انشقّوا لاحقاً وأسّسوا تنظيم حراس الدين في إدلب، وحاصره الجولاني وسهّل القضاء على أغلب قادته)، وأصبح التنظيم في غالبيته المطلقة مكوِّناً سورياً، ولم يبق إلّا عدد محدود من الفصائل الجهادية التي بقيت مع التنظيم (خاصّة من آسيا الوسطى، وفي الأغلب سيكون مصيرهم مثل الجهاديين العرب في البوسنة في منتصف التسعينيّات؛ المغادرة أو التخلّي عن السلاح والاندماج في المجتمع).

تتعلّق القضية الجوهرية بصوغ العلاقة بين الدين والدولة في سورية في المرحلة المقبلة

من ضمن المُحدِّدات المهمّة التي تحول دون إقامة دولة إسلامية (على غرار طالبان أو حتى إيران)، المُحدِّدات الدولية والإقليمية، وقد تبدَّى في اجتماع العقبة أن هنالك توافقاً دولياً وإقليمياً (بالرغم من الخلافات الشديدة بشأن بعض الملفّات والصراع على النفوذ في داخل سورية في الفترة المقبلة)، على مجموعة من القواسم المشتركة؛ وحدة الأراضي السورية؛ التعدّدية الدينية والسياسية والثقافية والعرقية؛ حماية الأقلّيات؛ الابتعاد عن التطرّف والتشدّد الدينيَّين (الإرهاب). ومن الواضح أنّ هنالك سياسة الخطوة بخطوة من المجتمعين الدولي والإقليمي، تجاه أحمد الشرع وتنظيمه، وربط أيّ خطوات برفع العقوبات وبدعم سورية مشروطاً بما يقدّمه من رسائل واقعية وتعهّدات.
بالضرورة، ثمّة رعاية تركية كاملة وراء الكواليس للشرع وتنظيمه. ومن المفيد التذكير هنا بأنّ تركيا حاولت قبل أعوام إعادة تأهيل الشرع وتقديمه للمجتمع الدولي، لكنّ الموقف الدولي والإقليمي حينها كان متصلّباً، أمّا اليوم فالموازين والمواقف تغيّرت، حتى الولايات المتحدة أقرّت بأنّها بدأت اتصالاً مباشراً مع هيئة تحرير الشام، ولعلّ هذا قد يدفع بعضهم إلى بناء سيناريو أن يكون النموذج المُلهِم للإسلام السياسي السوري في المرحلة المقبلة هو النموذج التركي، المتمثّل بحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيّب أردوعان، وهو نموذج قد يبدو ملائماً مع الحالة السورية، ومع ملاءمة نمط التديّن هناك للحالة المدينية المميّزة، التي تشكّلت في سورية خلال العقود الماضية، وتشكّلت معها طبقة من السياسيين والمثقّفين والفلاسفة والعلماء والفنانين، الذين لا يتوافقون مع تيّار الإسلام السياسي، ومنهم نسبة كبيرة انضمَّت إلى المعارضة، أو رفضت المشاركة في حفلة الاستبداد لدى النظام السابق، وهؤلاء كلّهم لا يرون سورية بعيون الإسلام السياسي، بل بعيون مختلفة تماماً ويريدون حقّهم في الحياة والثقافة التي يرونها. ومن هنا قد يكون "النموذج التركي"، الذي يزاوج بين العلمانية والإسلامية قادراً على تقديم إجابات مقعنة لشريحة اجتماعية واسعة.


كتب الصديق الباحث، والإعلامي محمد تركي الربيعو، في واحد من حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، محذّراً من أن من المبكّر حديث عديد من المحلّلين والسياسيين عن النموذج التركي بوصفه الأكثر ملاءمةً للحالة السورية، فضلاً عن النفوذ التركي الذي قد يُسهّل مثل هذا التماثل، وعزا ذلك إلى أنّ النموذج التركي نفسه مرّ بتحوّلات، وأنّه فقد بريقَه خلال الأعوام الماضية، وهو أمر أتفق معه جزئياً (في أنّه لا تزال هنالك تحدّيات وعقبات أمام هذه النتيجة). ولكن، في المقابل، الأمراض التي ابتلي بها النموذج (وذكرها الربيعو) لا ترتبط بالضرورة بالفكرة، بقدر ما تتعلّق بالسلطة وبالمصالح الشخصية. وفي الأحوال كلّها، أثبت النموذج التركي قدرته وفعّاليته على تجاوز سؤال مهمّ جدّاً يتعلّق بترسيم خطوط العلاقة بين الدين والدولة، وإيجاد معادلة مرضية للطرفَين، الإسلاميين والعلمانيين، وأوجد (النموذج التركي) نمطاً من العلمانية المحافظة أو الإسلامية الليبرالية المقبولة داخلياً وخارجياً.
يتعلّق السؤال الأول بكتابة الدستور، وتكوين اللجنة المعنية بالدستور، ومن سيشكّل اللجنة، وما هي البنود التي سيجري التوافق عليها في ما يتعلّق بهُويَّة الدولة، وسؤال العلاقة بين الدين والدولة. وهنا، قد لا يصدُر التحدّي الأكبر من أحمد الشرع، بل سينتقل إلى الجدل بين التيّارات الإسلامية المتعدّدة من جهة والتيّارات العلمانية والأقلّيات الأخرى، من جهة ثانية. وإذا التزم الجميع بإعلان العقبة (الصادر السبت الماضي من مجموعة الاتصال العربية، بالإضافة إلى دول عربية وأميركا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي)، فإنّ هنالك شروطاً ومحدّدات واضحة في عملية بناء النظام السياسي الجديد وتصميمه وكتابة الدستور، وهو أمر من الواضح أنه يمثّل شرطاً رئيساً لعملية تقبّل الشرع وهيئة تحرير الشام، والنظام الجديد في سورية، في البيئة الإقليمية والمجتمع الدولي. ويبدو أنّ الشرع مستعدّ أن يتخطّى كثيراً من الحدود الأيديولوجية والفكرية من أجل الوصول إلى ذلك، وهذا ما تؤكّده سيرته السابقة، وقدرته على التكيّف، وبراغماتيّته الشخصية والسياسية.

قضايا الدين الدين والمجتمع والدولة والحرّيات العامة والفردية وغيرها، إشكالية وجدلية في سورية والعالم العربي في هذه المرحلة التاريخية

بالطبع، لا يقف سؤال الدستور الجديد عند حدود علاقة الدين بالدولة، بل هنالك أسئلة عديدة متعلّقة بالأقلّيات، عما إذا كان شكل نظام الحكم المقبل فيدرالياً أم موحّداً، وموقف الأقلّيات من ذلك، لكن ما يُعنى به هذا المقال بصورة أكبر قضية الدين والدولة، لما لها من أبعاد وتداعيات داخلية وخارجية، فكرية وسياسية ومجتمعية وثقافية كبيرة.
يتعلّق السؤال التالي (في جدلية الدين والدولة) بمن سيهيمن على النظام السياسي الجديد من القوى السياسية، إذ تشير التحوّلات المجتمعية والثقافية والسياسية السابقة في سورية إلى أنّ درجة التديّن ونفوذ التيّارات الإسلامية، بألوانها المختلفة، تزادد وتتوسّع، ما يدفع القوى العلمانية والطائفية والأقليات الأخرى إلى القلق على حقوقها الثقافية والمجتمعية، والحرّيات الدينية، والخشية من سؤال "أسلمة المناهج". ومعروفٌ أنّ الهاجس ساهم بدرجة كبيرة بدخول تجارب سياسية عربية أخرى في مرحلة من الاستقطاب والتجاذبات السياسية والفكرية، وأجهض التجربة الديمقراطية فيها.
ما زالت تجارب التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من نظام سلطوي إلى "ديمقراطية غير مؤكّدة" (على حدّ تعبير كل من غليرمو أودونيل وشميتر)، طريةً وغضّةً ولم تستقرّ في أجوبة توافقية بين القوى السياسية والفكرية. لذلك ما زالت أسئلة مثل قضية الدين والمجتمع والدولة والحرّيات العامة والفردية وغيرها، تشكّل قضاياً إشكاليةً وجدليةً كبيرةً في العالم العربي، والحالة السورية هي جزء من هذه المرحلة التاريخية.

*العربي الجديد