ماركيز أو المعادلة الصعبة
ما تحقق لغابرييل غارسيا ماركيز من شهرة وذيوع، عبر العالم، شكّلَ بذاته ظاهرةً ندر حدوثها في دنيا الأدب. ولربما هي الأولى إذا ما تابعنا انتشار كاتب معيَّن داخل بلدانٍ مختلفة في ثقافات شعوبها، ومتباينة في مستويات التعليم بين طبقاتها، ومتعددة في لغات الناطقين بها، ما يعني أنّ كتبه باتت "عابرة للغات وللقارات" أيضاً! وبذلك؛ فإنّ هذا الكاتب كسر القاعدة التي كانت سائدة، المتمثلة في: كُتّاب أعلام ولكن ضمن لغاتهم الخاصة، ووسط شعوب ناطقة بها، وداخل حلقات ضيقة نسبياً من قُرّاء الأدب ومتذوقيه ودارسيه خارج بلدانهم– مع الأخذ بالاعتبار الاستثناءات التالية: شكسبير، وسرفانتس. الأول في المسرح والدراما، والثاني في التأسيس للرواية كجنس أدبي وليد.
غير أنه ينبغي التنويه إلى أنّ هذا الكاتب الكولومبي كان أحد الذين حملتهم موجةٌ عاصفة اجتاحت أوروبا أولاً، ثم الولايات المتحدة حيث توالت تداعياتها لتكتسح القارات، سُمّيت حينها (منتصف سبعينيات القرن الماضي) بموضة أو انفجار أدب أميركا اللاتينية..BOOM. وأبرز مَن طفا على وجهها: خورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وخوان رولفو، وأرنستو ساباتو، وأوكتافيو باث (نوبل 1990)، وكارلوس فوينتس، وجورج أمادو، وبابلو نيرودا (نوبل 1971)، وأليخو كاربنتييه، وميغيل أستورياس، وماريو فارغاس يوسا (نوبل 2010)، وماريو بينيديتي، وإيزابيل اللندي، وباولو كويلو، وإدواردو غاليانو، إلخ.
يرزت هذه الأسماء وشاعت، وتُرجم الكثير من أعمالها إلى غير لغة، والبعض منها حُوِّلت إلى أفلام سينمائية كـ"الغرينغو العجوز" للمكسيكي فوينتس، أسوةً برواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا". غير أنّ الأخير ظل الأبرز والأكثر مقروئيةً، وربما نيله جائزة نوبل عام 1982 شكَّل حافزاً مُضافاً إلى جملة مواقفه المعلنة من قضايا التحرر في العالم، أبرزها وقوفه إلى جانب كوبا وزعيمها فيديل كاسترو في مواجهته للسياسة الأميركية العدائية. ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا غابرييل غارسيا ماركيز، دون سِواه من روائيي أميركا اللاتينية الكِبار وقَصَّاصيه، الأكثر ذيوعاً (إسماً وأعمالاً) عبر العالم، والحاضر شبه الدائم في وسائل الإعلام، والوحيد الذي كانت وفاته المانشيت الرئيس لعديد الصحف، والخبر الأوّل في نشرات إذاعية وتلفزيونية – بعد كوارث اليوم السابق، السياسية والطبيعية؟
أراني، للإجابة عن هذا السؤال، أميل للاعتقاد بأنّ الانتشار والذيوع الواسعين على نحوٍ استثنائيّ إنما يعني، في وجهه التطبيقيّ، احتساب الكم بصرف النظر عن الكيف. إنها بمثابة قاعدة عامة ليس سهلاً القفز عنها، رغم أنها ليست الوحيدة ضمن مجموعة عوامل وروافع. ولأننا بصدد الحديث عن كاتب وكتابة؛ فإنّ الانتشار والذيوع يساوي كم عدد النسخ المباعة وعدد قُرّائها، وبالتالي فنحن إزاء ما هو جماهيري، أو شعبي. فالجماهير تدلل على الكتلة الكبرى، وما تختاره هذه الكتلة رَهْنٌ بطبيعة ذائقتها في زمنٍ معيَّن، ومؤشِّر يفصح عن طبيعة ما ترغب فيه وتستسيغه. وفي غالب الحالات، ومن خلال آلية التداول على مستوى العام، وبالمشافهة المكرورة على نطاق اجتماعي واسع أكثر من المعاينة الفردية القارئة، يتحوّل العدد الكمي من قراءة شعبية إلى ظاهرة شعبوية.
فهل غابرييل غ. ماركيز، استناداً إلى ما سبق، كاتب شعبي، أم كاتب شعبوي؟
هو الاثنين معاً، وفي الوقت نفسه.
هو كاتبٌ شعبيّ بالقياس إلى عدد النسخ المُباعة من رواياته، والانتظار الدائم لكل جديد يكتبه، والملاحقة لأخباره وتصريحاته في شتّى الشؤون. كما أنه يتحلّى بـ"سِحره الخاص"، كتابةً جاذبة ولغةً سلسة ومناخات غرائبية وشخصيات لا تُنسى، وسط ما عُرف بـ"الواقعية السحرية"، السِمة التي وُسِمَ بها النتاج الروائي القادم من أميركا اللاتينية – وهي بالمناسبة سِمَةٌ مبالَغ بها؛ إذ لا تنطبق أبداً على نسبة عالية من تلك الكتابات.
وهو كاتبٌ شعبوي بالمعيار الأدبيّ الصرف المقارن بين نصّه الذائع من جهة، ونصوص سِواه المختلفين جذرياً عنه من جهة أخرى؛ حيث تبرز الذائقة العامة للجماهير (الكتلة الكبرى) مقياساً وحيداً ورافعةً أُولى من المستحسن وضعها كمنظورٍ نسبي.. إذا ما أردنا أيّ قراءة متوازنة تتصف بالإنصاف. وهنا ترانا نعود للدوائر الأصغر، أو الأضيق من القُرّاء والمتذوقين والدارسين.
* * *
حقق غابرييل غ. ماركيز المعادلة الصعبة: كتابة متميّزة ذات مستوى أدبي رفيع لم تحذف من مفرداتها موضوعة الدكتاتور والفساد والسخرية منهما، مثله في ذلك مثل معظم كتّاب القارّة. وشهرة فاقت شهرة أيّ كاتب/ كاتبة قبله، ما سمح للرواية كجنس أدبي رواجاً غير مسبوق، ومكانةً متقدمة بين الناس. هذه نقطة.
أما النقطة الثانية؛ فلقد حملها خبر المعرض الخاص بكتبه في عاصمة بلده، بوغوتا، بمناسبة مرور سنة على وفاته الأسبوع الماضي: ثمّة نسخة من روايته "مائة عام من العزلة" بطبعتها الأولى، مُهداة منه لصديق قديم بائع كتب وممهورة بتوقيعه، كانت داخل صندوق زجاجي لغاية العرض، تمت سرقتها!
الأمر اللافت، بالنسبة لي، هو أنّ ماركيز ربما يكون أوّل مَن أثار انتباه لصوص المقتنيات الثمينة إلى كتاب الأدب بوصفه مادةً ثمينة تستحق السرقة! اعتدنا طوال أعمارنا على توارد أخبار سرقة اللوحات الفريدة لمشاهير الفنانين من المتاحف والمعارض، أما سرقة نسخ محددة من كتب مشاهير الكتّاب؛ فتلك سابقة.
سابقة حققها ماركيز، ولو بعد وفاته، تُضاف إلى ما أنجزه خلال حياته!
ويبدو أنّ لـ"سِحره" الخاص بقايا!
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.