ليس باسمي

ليس باسمي
الرابط المختصر

 

 

في حوار إذاعيّ استمعتُ إليه الخميس الماضي، أفاضَ رجل باكستاني مثقف يعيش في بريطانيا، متحدثاً عن تحوّله من مسلم ينتمي لعائلة سَلَفيّة (بحسب وصفه) يطلب العلم والمعرفة، إلى متشدد مجاهد يقاتل في أفغانستان مع "القاعدة" ضد الشيوعيين، ثم ما لبث وأن عاد إلى إسلامٍ متفهم قادر على استيعاب متطلبات العصر، ملغياً بذلك كثيراً مما اعْتُبِرَ من "الوجوبات والأحكام" الإدارية للدولة الإسلامية، كالجزية، وكيفية التعامل مع الذِميبن، إلخ. وهو في تحولاته تلك وعنها أصدر أكثر من كتاب، رافضاً الأسس التي قامت عليها "القاعدة"، ومن ثَم مديناً من حيث المبدأ ممارسات وليدتها الأكثر تطرفاً - "داعش".

 

اللافت في حديث الرجل أنّ الإسلام، بحسب فهمه، اتخذ لنفسه في التطبيق العَمليّ عدة اجتهادات كانت ذات صِلة بظروف كل مرحلة من المراحل. وأن ليس ثمة ما يحول دون تطور "المفاهيم" بما يسمح بالتعايش السلمي مع غير المسلمين (داخل المجتمعات المسلمة وخارجها)، وبما لا يتعارض مع جوهر الإسلام، كدين يدعو للسلام والتآلف. وبذلك، فإنّ كلاً من القاعدة وداعش، وسواهما من التنظيمات الشبيهة، لا تمثّلان الإسلام ولا تنطقان باسم المسلمين.

 

طُرحت تلك الأفكار، عبر الحوار، في سياق الحديث عن حملة حَشَدَت لها الجاليةُ المسلمة في بريطانيا تحت شِعار: "ليس باسمي –not by my name"، لتشهد على تبرؤ المسلمين، هناك، من أفكار داعش وسلوكها الإجرامي الإرهابي. باختصار: هذا ليس الإسلام، وهؤلاء ليسوا بمسلمين، ونرفض أن تُقرن أفعالهم بنا وباسمنا. ولقد حملت تصريحات هذا الرجل، المتحوّل في مفاهيمه، أكثر من معنى يمكن لمن يريد الاستزادة فيها الرجوع إلى كثير من كتابات متفكّرة، خاصة بالتأويل، والقراءة اللغوية المغايرة للنصّ القرآني، وموضعة الأحاديث النبوية في سياقاتها الظرفية، إلخ.

 

*   *   *

على أهمية تلك التصريحات، غير أنّ شعار الحملة إيّاها كان أكثر ما أثار فيَّ جملة تداعيات. "ليس باسمي".

فعند تأملنا تركيب الجملة بكلمتيها، وما تستدعيه من تاريخ طويل ممتد من أحداث عصفت بمصائرنا ومستقبل أوطاننا - تاريخ عشناه وما زلنا نعيشه حتى اليوم -، فإنّ تزويراً فجّاً لازمَ جميع تلك الأحداث بوصفها ما كانت إلّا لصالحنا، ومن أجلنا، وبالتالي هي باسمنا! لكنها في الحقيقة لم تكن يوماً باسمنا، لأنها، ببساطة، ليست اختيارنا الناتج عن أيّ شكل من أشكال الاستفتاء، أوالأخذ برأي الأغلبية!

 

فما دامت سلطاتنا تكتفي بمظاهر الدول المدنية الحديثة، بمؤسسات خاوية من مفاهيمها الحقيقية، وليست متخذة للفرد وحرية اختياره مبدأ ومرجعية للحكم؛ فإنّ كل ما ينتج عنها لا يتعداها، ولا يجوز أن تُنْسَب إلينا: نحن الأفراد داخل ما ينبغي أن يكون مجتمعاً مدنياً يستند لأحكام الدستور روحاً، قبل أن نتمثله نصوصاً يجري تأويلها وفقاً لصالح "المُشّرعين" العاملين في خدمة تلك السلطات.

 

ليس باسمنا يتم تبني كلّ ما يصدر عن مجلس النوّاب من قرارات، واجتهادات، ومشاريع تشريعات، وسواها من مخرجات تأتت عن "نُوّاب" غابوا عن جلسات المجلس يوم اتخذت القرارات الحاسمة بشأن أمور حيوية تخصّنا.

 

ليس باسمنا تُرْسَم السياسات الاقتصادية، وتُخصص الميزانيات العامة والخاصّة، التي لم توقف يوماً تصاعد الخط البياني في الفارق بين مدخول الفرد من جهة، والأسعار الحارقة لأسرته وأطفاله من جهة أخرى.

 

ليس باسمنا تُشَكَّل الحكومات وتوزَع الحقائب بحسب "الكوتات" المناطقية، والعشائرية، والجهوية، دون النظر إلى أنّ منطق "التوازن والإرضاء" هذا إنما يكرّس تفتيت المجتمع الواحد، ليحيله إلى تجمعات صغيرة تطالب بـ"حِصتها" هي لا سواها وسواها وسواها!

 

ليس باسمنا توضع السياسة الخارجية حيال العالم، وانخراط دولتنا في تحالفات إقليمية ودولية، ومواقف غامضة (عملياتية ودبلوماسية) مما يجري من حرائق تحيط بنا، دون التساؤل عن "الأثمان" المدفوعة.. أو المقبوضة!

 

لن تنتهي سلسلة "ليس باسمنا" هذه بالطبع؛ غير أنّ حَجَر الارتكاز الذي يجعل من جملة ما حدث ويحدث لنا، بسبب من قرارات السلطات، يتجلّى في النظر إلينا على أننا مجرد "مواطنين/ رعايا"، أو أناس يفتقدون قدرة التفكير في أمور حياتهم واتخاذ ما يناسبهم من قرارات تمسّ مستقبلهم، أو أنّ اللامبالاة والتلهي هما حقيقتنا في اللحظة الراهنة!

 

أهكذا نحن؟

مجتمع قاصر بحاجة لمن يتولّى شؤونه بالنيابة عنه، ويتحدث بالنيابة عنه، ويوقع الصكوك على بياض لتُملأ بالنيابة عنه، لكنه لا يجد أحداً يسدد ما يترتب عليه جرّاء قرارات السلطات وإجراءاتها.. بالنيابة عنه!

ولا يسعنا، بعد ذلك كلّه، إلّا الرجوع إلى حملة المسلمين في بريطانيا وشعارهم الأكثر من مُعَبِّر:

"ليس باسمي"!

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك