لا يريدون معرفتهم بنا

لا يريدون معرفتهم بنا
الرابط المختصر

ذاع صيت أدب أمريكا اللاتينية، وانتشر على نحو خاص منذ ستينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كان فيه أغلب كتّابه يعيشون في المنافي القسرية والاختيارية، أو يعيشون تجارب مرّة قاسية في بلدانهم، التي ابتليت بـ"الحضارة" الغربية ومؤسساتها التبشيرية، وفي طليعتها الشركات المتعددة الجنسيات.

قبل الشهرة والذيوع العالميين، عاش هذا الأدب تجربة أهم. لقد حفر حضوره، وبنى قاعدته، على المستوى المحلي في بلدان القارة اللاتينية نفسها، ثم على مستوى قاري في أرجاء القارة. وغزا بعدها ثقافات المستعمرين الأوروبيين، وتردد صداه في المجال الحيوي الأوروبي للغتين البرتغالية والأسبانية.

في الأثناء وصل هذا الأدب بقوة إلى أوروبا وأمريكا. والملاحظ هنا أن ذلك لم يتم تلقائياً، بجهود أدباء أو ناشرين ولأسبابهم الخاصة المعهودة. بل لأن القارة اللاتينية الواقعة تحت هيمنة الشركات الأمريكية كانت تشهد اضطراباً سياسياً مقيماً: انقلابات وانتفاضات محلية وثورات ومدِّ يساري ثوري هائل، بتجارب هائلة لا تنسى. وتعبر عن ذلك سيرة كوبا والمأساة التشيلية، والرحلة الكبيرة التي قطعتها القارة من ريادة المثقف الثوري "البرجوازي الصغير" بالنسخة التي واكبها الفرنسي ريجيس دوبريه ومثلها الأمثولة الإنسانية تشي غيفارا، وصولاً إلى الجندي تشافيز.

وكانت أرضاً خصبه لانتشار ونشر العداء للأمريكيين والغرب والرأسمالية. حينها، جاء الاهتمام بالأدب الأمريكي اللاتيني الصاعد بوصفه جزءاً من محاولة الغرب لفهم هذه القارة المنتفضة، التي بدا واضحاً أنها ليست شديدة الحماس لتكون جزءاً من "الحضارة" الغربية، بقدر ميلها أن تكون في طليعة دول العالم الثالث المنتفضة في وجه العالم الأول، الذي سطا على انتصار الإنسانية الكبير في الحرب العالمية الثانية، التي كانت في الأصل حرباً ضد نهج الجريمة الدولية، بحق البشرية، الذي أنتجه الغرب في لحظة تطرفه المتوقعة.

ولا يبدو من المصادفة مواعيد قفزات الأدب الأمريكي اللاتيني وتزامنها مع تلك الأحداث الدولية! لقد استخدم الغرب الأوروبي والأمريكي مكتسبات ونتائج الحرب الثانية، التي سطا عليها من دون وجه حق، بإفراط في هندسة وشن عدوانات تالية تتسم بالتطرف والإجرام المسلحين، اللذين يعبران عن النوازع العنصرية والعرقية الغربية.

وكانت القارة اللاتينية أقرب للاستغلال والبطش، فبدا للأمريكيين أن نتائج الحرب تمنحهم مواصلة استغلالاتهم لشعوبها بالطريقة الواضحة المكشوفة من دون رادعٍ أو ردٍ فعل دولي. ولكن هذا، بالطبع، أجج المقاومة وردات الفعل المحلية. إضافة إلى أن القارة عبرت بتطرف مقابل عن ميلها لتكون جزءاً من العالم الثالث ورفضها أن تكون جزءاً من العالم الغربي؛ ويعدّ كارلوس، المسجون في فرنسا اليوم دفعاً لفاتورة انخراطه في الثورة الفلسطينية، مثالاً على هذه النزعة.

 

حينها، في سياق هذا الرفض العنيف، احتاج الغرب إلى إجابة على سؤال: "لماذا يكرهوننا؟". السؤال ذاته، الذي طرحه الغرب فيما يتعلق بالعرب في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول الشهيرة، وأنفق عشرات الملايين من الدولارات على المؤتمرات وورشات العمل والبرامج التلفزيونية التي كانت تحاول أن تعطي إجابة عليه. وأنفق ملايين أكثر من ذلك في محاولة لتعديل تلك الإجابة!

في ذلك الوقت، افترض بعض الأدباء والناشرين العرب، على نحو منطقي، أن الغرب، وعلى رأسه الأمريكيين، سيبدأ أخيراً بالاهتمام بترجمة الأدب العربي، أسوة بما حصل مع أدب أمريكا اللاتينية. وافترض بعض الأدباء العرب المهوسين بـ"العالمية" أنهم باتوا على أبواب الشهرة، وعلى قاب قوس أو أدنى من "العالمية". فدبجوا الكتابات الاستنكارية، ومن بينها قصائد وروايات، بانتظار الانفتاح الغربي عليهم.

لكن ما حصل خيب آمالهم على نحو بالغ؛ لقد أنفق الغرب عشرات الملايين من الدولارات (إن لم يكن المئات منها) على الإعلام السياسي والمؤتمرات ومراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني، ولم يوجهوا سنتاً واحداً نحو ترجمة الأدب العربي.

أليس هذا لافتاً ومثيراً للإهتمام والحيرة على حد سواء؟ التفسير المنطقي الأول لهذه الواقعة يمكن أن يكون في أصالة الأدب العربي المعاصر، ومستوى قدرته في المساعدة على فهم هذه المجتمعات التي "تفاجأ" الغرب بردة فعلها العنيفة على سياساته. لكنه، مع ذلك، يبقى تفسيراً قاصراً غير كافٍ.

التفسير المنطقي الثاني يتلخص بأن هذا الغرب لم يكن يقصد في الحقيقة معرفة الإجابة على السؤال القاتل ("لماذا يكرهوننا؟")، ولكن محاصرته وقد طرحته الأحداث العاصفة بقوة غير مسبوقة، وترتيب إجابات "مناسبة" عليه، ترد الكراهية إلى جذور ثقافية تخصنا، وتحصر أسبابها بنا وبثقافتنا التي "يتوجب" تغييرها.

وأنهم بالأصل، لا يريدون معرفتنا، ولكن يسعون لتغيير معرفتنا بهم! ويمكن لتأكيد ذلك العودة إلى مثال قديم، من جزيئيات تاريخ تعامل السينما الأمريكية مع الشخصية العربية. إذ من المذهل أن هذه السينما قادرة على دراسة شخصياتها الأخرى، وحتى تلك التي تنتسب إلى التاريخ القديم، فتعيد تجسيدها بتفاصيلها، لناحية الشكل والأخلاق والملابس، ولكنها تصر على تقديم الشخصية العربية المعاصرة، بصورة نمطية معروفة. رغم أنهم يتعاملون معها يومياً، ويبرعون في السيطرة على دولها وثرواتها.

أبسط تفصيل ومثال حول ذلك هو أن هوليوود تجسد شخصيات التاريخ القديم، الروماني وحتى اليوناني، بدقة جميلة، ولكنها حينما تريد أن تصور عربياً تصبح عديمة الموهبة والجدية والمهنية، فتقدمه بلحية مع خبرة مكياج تتدنى فجأة لتصبح من مستوى "السلق" في أفلام المقاولات المصرية الشهيرة، والمعروفة برداءتها!

والأمر حتى في تعمد اللجوء إلى الأزياء العربية التقليدية؛ وفجأة يصبح صنع رداء فرعوني متاحاً بدقة وتفصيل أكثر مما يمكن صنع وتوفير عباءة وعقال عربيين عاديين، فتظهر الشخصية العربية على الشاشة بصورة كاريكاتورية. رغم أن هوليوود مليئة بالعرب العاملين فيها، ولا يكاد فيلم أمريكي يخلو منهم، وأحياناً يكونون مستشارين لتلك الأفلام.

 

يمكنني أن ألاحظ أن مثل هذا التعامل والإصرار على على هذا النوع من الصورة النمطية الكاريكاتورية هو أمر يحظى به العرب والروس فقط، رغم أن الروس كذلك معروفون جيداً للأمريكيين، ويعمل كثير منهم في هوليوود نفسها.

خلاصة القول أنهم يعرفوننا، ولكنهم لا يريدون معرفتهم بنا!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.

 

أضف تعليقك