لا أحب لينين

لا أحب لينين
الرابط المختصر

 

بعد الطمأنينة أن لي ما لي، وعليّ ما عليّ، أستطيع القول والافصاح إنني لا أحب لينين. ويا للغرابة المعقولة جداً، فإن آراءه ومواقفه، ومنها كتاب "المادية ومذهب النقد التجريبي"، الذي يُجرِّم فيه بحنكة المحامي أصدقائي من رفاقه (بوغدانوف، غوركي، لوناتشارسكي) هو من أكثر كتبه إثارة لعقلي منذ مراهقتيّ، الأردنية والروسية، إلى عمري هذا.

 

وفي الأثناء أتذكر أشياء لافتة..

كل المعتبرين في الحزب، ممن لم تكن عليهم مشكلة، ومن لم يحتاجوا إلى شهادة لينين وتزكيته، وصلوا إلى الموقف الذي أتحدث عنه، واكتشفوا أنهم لا يحبون لينين لكنهم يقدرونه جداً، ويشعرون أنه يستحق أقصى الاحترام، في موقف لا يعبر عنه إلا قول غوركي في أوائل ثلاثينات القرن الماضي، رداً على سؤال طرحه عليه الأديب الفرنسي رومان رولان عن التناقضات الكبيرة في موقفه وحديثه عن لينين: «لقد أحببته بغضب!».

 

وكان غوركي يتحدث عن ماكينة ثورة لم تتورط في شبهة مالية، أو فساد أخلاقي، أو خيانة سياسية، رغم كل الإغراءات والدعوات الدولية الناقمة على روسيا القيصرية، وقبل معاهدة «بريست»، التي أخرجت موسكو من الحرب العالمية الأولى، لم يدخل أبداً في تفاهمات «تكتيكية» مع دول صديقة أو عدوة. وأرشيف الـ«كي. جي. بي» يؤكد ذلك!

 

ومن اللافت هنا، أن الثقافة الغربية لا تزال تعيش في عصر الحرب الباردة، بأمر السلطات الأمنية، لدرجة أن الإشاعات التي تم ترويجها حول فلاديمير ايليتش (لينين) منذ تولي الرئيس الحالي لروسيا، فلاديمير بوتين، السلطة، تفوق بأضعاف الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفيتي طوال عقود وجوده.. وهذا في النهاية، طبعا، سيقودنا لأن نعتقد أن بوتين حفيد لينين!

 

قائمة الأشخاص الذين اختلفوا مع لينين في حياته، واصطدموا به، وخالفوه بصخب وعناد، وحظوا بتأشيرات إدانه مكتوبة منه، تضم الرفيق ستالين بدرجة كبيرة، لكنها أبدا لم تشمل تروتسكي، رغم أن لينين استخدم كلمات مقذعة في الحديث عنه. وبالمقابل، لغوركي كلمات مليئة بالاحترام والآدمية في نقد تروتسكي!

 

وهنا، من باب المرور على الأشياء، علي أن أقول إن تروتسكي كان وراء كل محاولات الانقلاب الغادرة على الدولة السوفيتية، التي انتهجت أرخص الأساليب، ومنها الاغتيال الشخصي لاستخدامات دعائية، ما يعيدني إلى غوركي ما قبل الثورة الذي يتساءل، متحدثاً عن تروتسكي، وعن الثقافة التي تصنع «أنا» متضخمة مطلقة، مخلصة على نحو انتحاري لـ«أنا»ـها.

 

الشيء المهم التالي، أن لينين قائد الثورة، ومؤسس الدولة، ومحقق أهم حلم بشري في التاريخ بعد التحليق بأجنحة، يتم تداوله باعتباره شخصية سياسية حصراً. وفي الواقع هو واحدة من أغنى الشخصيات التي تمتلك إشارات أدبية، من دون أن يكتب قصة أو رواية. وهذا ما لم يلتفت إليه أحد!

 

دعونا ننطلق منهنا إلى التفكير بـ«الواقعية الاشتراكية»، لأن الذين تأثروا بانهيار الاتحاد السوفيتي، لم ينتبهوا أنهم يتلمسون حفاف الواقعية الاشتراكية، التي تعيد اليوم بعد عقود المجتمع الأدبي العلمي والمثقفين في روسيا إلى طرح السؤال البسيط: «من هو غوركي، في حقيقة الأمر؟». وهذا يجرهم إلى السؤال: أين طروحات لينين حول الواقعية الاشتراكية.

 

الأمر الآخر هو أن لينين، الحقيقي ما قبل الثورة، أغفل في تفكيراته كل الشرق، وتعامل مع العالم باعتبار أنه حقيقة أوروبية مع زوائد أميركية، ولم ينتبه. وكل استدراكاته تشبه استدراكات ماركس العبقري، الذي «انعمى ضوه» بالهلوسات الأوروبية.

 

عليّ أن أنتبه إلى أن فضول لينين تجاه أوروبا عطّله تيار قوي في الثقافة الروسية أن يضم حركته، وأن ينسب بلاده، ولاحقا دولته، إلى أوروبا. لكن ستالين لم يجد أي صعوبة في أن يعلن انتماء روسيا إلى «العالم الشرقي». وللأسف، لم يتحقق الشرق الـ«ستاليني» ولا يعرف أحد به.

 

على أبواب الثورة العظمى، نشأ خلاف كبير وقفت محموعة من مثثقفي الحزب لينين، وعلى رأسهم ستالين، بشأن الاشتراك بالدوما الروسية. وكان هذا موقفاً كبيراً لو لم تطفئه ثورة أكتوبر، التي تشرح اليوم ظروفه، ومن كان على حق، ومن كانت تدفعه رغائبيته إلى المغامرة, أريد أن استرسل، لكنني وصلت إلى اللحظة التي اعتبر فيها أن ألكسي مكسيمقيتش (غوركي) جالس معي، لذا سأضع يدي بيده، وسأواجه رومان رولان الجالس قبالتي، وأقول:

 

  • - أحسنت ألكسي مكسيمفيتش. أنا أيضا أحبه بغضب!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.