كيف نخلق مِثالاً

كيف نخلق مِثالاً
الرابط المختصر

لم أكن على معرفة مؤكدة بعديد من الديانات والمعتقدات كوني لستُ معنيّاً بموضوعاتها على نحو مختصّ، ولأنها باتت موضع "شبهات"، بسبب تواريها في تضاعيف التاريخ، وتعرضها للفهم الشعبوي القائم على استسهال إصدار الأحكام على الأمور ووضعها داخل منطقتي الأبيض والأسود. ناهيك عن ضعف حضور مَن يؤمنون بهذا الدين أو ذاك المعتقد لضآلة نسبتهم داخل المجتمعات ما يؤدي، غالباً، إلى نوعٍ من التشويه في أسوأ الأحوال، والالتباس والخلط في أفضلها. هكذا هي الأمور في جميع المجتمعات، ولدى غالبية الناس، وضمن كافة الثقافات السائدة عبر الأزمنة بتقلبات أحوالها الدائمة.

 

ولأنّ الواحد منا جزء من مجتمعه، غير منفصل عنه وعمّا تنحصر في حدوده المعارف العامة؛ فإنّ خبر إنشاء "المجلس الأعلى للزردشتية" – منظمة زند، وبرعاية رسمية من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة إقليم كردستان، بتاريخ 19 نيسان الماضي، كان أن أعادَ سؤالاً قديماً كنت نسيته عندما قرأت عنوان الكتاب الأشهر للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه "هكذا تكلّم زرادشت". حدث هذا قبل أكثر من أريعين عاماً.

 

اشتريت الكتاب بترجمته العربية بدافع الفضول المعرفي، غير أني لم أستطع فهم واستيعاب طروحاته لِقِلّة مرتكزاتي الفكرية، فأجّلتُ قراءته إلى وقتٍ طال وطُمِرَ الدافع لانشغالاتٍ شتّى، ولم يبق لي سوى تصوّر نيتشه لـ"الرجل الفائق – السوبرمان" وفكرة "العود الأبدي".

 

اللافت، بالنسبة لي، في خبر الإعلان الرسمي عن إنشاء مجلس أعلى للديانة الزردشتية، أمران:

الأول: أنّ الزردشتية دينٌ توحيديّ صريح وقديم يعود إلى 3500 سنة، يرى في الله ألوهية إله واحد، مطلق، عالمي، مجرد، ترجع إليه أمور كل المخلوقات، خالق وغير مخلوق. وبذلك، فإنه متفق تماماً مع الديانات التوحيدية السماوية الثلاث من حيث المبدأ والجوهر، علماً أنّ زرادشت نفسه نفى عن شخصه صفة النبوة. وفي كتاب تعاليمه "الأفيستا"، فإنّ الزردشتية تقوم في فلسفتها على ثلاثة مفاهيم: الفكر الجيد، والكلام الجيد، والعمل الجيد.

الثاني: أنّ إنشاء المجلس الأعلى هذا حظي برعاية رسمية من المؤسسة المعنيّة بالشؤون الدينية، حيث حضرها مدير إعلام وزارة الأوقاف مريوان نقشبندي الذي صرّح بالمناسبة: "لا توجد أي حساسية تجاه أي معتقد أو ديانة في إقليم كردستان، ونحن نعتز كون هذه المنطقة هي الوحيدة في الشرق الأوسط (إقليم كردستان) تضم جميع هذه الأديان."

 

أوردتُ هنا الخطوط العريضة للخبر، مضيفاً أنّ رئيس منظمة زند، لقمان حاجي كريم، صرّح بدوره بأنّ المجلس مَدَنيّ في أنشطته لا يمارس السياسة أو العمل الحزبي أو الحكومي. وأنّ الزردشتية هي الديانة القديمة والأصلية للشعب الكردي.

 

دفعني الأمران اللافتان إلى التمعّن بأبعادهما وما يتوالى عنهما من معانٍ وإشارات لا تخطئ أهدافها.

فبالنسبة للأمر الأول، الخاص بطبيعة الزردشتية، فإنَّ المدهش هو التثبت من فكرة التوحيد وأنها أسبق في هذا الطرح من الديانات السماوية – الإبراهيمية، وأنها نبتة شرقية خالصة بذرها وزرعها أبناء منطقتنا وهذه الأرض التي أنتجت الرؤى الواصلة بين الخالق.. والخلق.. والمخلوق. فالتوحيد لا ينحصر، كمفهوم، بالخالق/ الله؛ بل يتعداه ليصل المخلوق/ الإنسان حيث يتمثّل في وجوده عبر "الجيد" في كل شيء، وهو واحد بالضرورة إذ هو نفسه الإنسان في كل الأمكنة والأزمنة (عالمي). وأنّ العالم بمجمله ليس سوى الفعل الواحد الخارج من إرادة الواحد في ألوهيته "ترجع إليه أمور كل المخلوقات."

 

أما الأمر الثاني، فإنّ العمل الواعي والهادف، على صعيد السلطة القائمة في إقليم كردستان الذي يتسم بشمولية النظرة السياسية والاجتماعية معاً، لكفيلٌ بأن يستدعي منا التأمل. فهم، خلافاً لمعظم إنْ لم نقل جميع السلطات العربية الراهنة، باتوا يسيرون على طريق موضعة كيانهم الناهض بوصفه "مِثالاً وأنموذجاً" جديداً مفارقاً لنماذج السلطات المتهرئة، العاجزة عن أيّ مبادرة تشير إلى المضمون الحضاري والتاريخي الذي تتغنّى به ليل نهار. فليس من أفعالٍ، داخل المجتمعات على صعيد التربية والتوجيه، توحي بجدية العمل ضد الداعين لمحاربة كل ما/ مَن هو مختلف إنْ بالمعتقد، أو الجنس. ثمة ميوعة أفعال، وأنصاف كلام، والتباس مواقف.

 

ولهذا؛ فإنّ الأكراد في إقليمهم العراقيّ المتمثّل بالسلطة القائمة، كان أن ترجمَ دعاويه أفعالاً في الواقع الحياتي، وذلك حين جعلَ من أرضه ملاذاً آمناً لليزيديين والمسيحيين والأشوريين الهاربين من سَفَّاحي داعش، هو المسلم/ سني وشيعي. وها هو، في الشأن الزردشتي، يضرب مثلاً في كيفية التعامل الندي مع الأقلية الدينية الأقلّ من قليلة، بلا حساسية منبعها التعصّب (السافر أو المضمر.) ناهيك عن النموذج الصمودي الفريد الذي قدموه في معركة "عين العرب/ كوباني".على هذا النحو تنمو الكيانات الاجتماعية/ السياسية وتتشكّل لتكوّن هُوية تستحق الوجود بين هويات أصبحت، بسبب انهيارات قِيَمها وانفراط عقودها الاجتماعية، محل تساؤل وحقول مفخخة بالالتباس.

 

يبقى لي أن أستخلص من الخبر الذي بدأت به، القول بأنّ "المِثال والأنموذج" الكردي هو المؤهل الآن لأن ينفي "إسرائيل" كنموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط، ويكشف زيفها الذي تشدقت به دول الغرب الكاذبة طوال عقود وعقود. فليس هنالك "أي حساسية تجاه أي معتقد أو ديانة.."، بينما يصرّ الكيان الصهيوني على الاعتراف به بوصفه "دولة يهودية!!" كأحد شروطه لإبرام معاهدة سلام!

 

وها هُم، الكُرد، يعيدون التنبيه إلى الفارق الكبير بين الدين من جهة، والقومية بثقافتها وقِيَمها من جهة أخرى. يعيدون التنبيه إلى وجوب معرفة الآخر والقبول باختلافه واحترام هذا الاختلاف، لكي يُصار إلى تحديد الذات ومعرفتها، والاعتراف بها بالمقابل.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

 

 

أضف تعليقك