كيس قمح
كنت أحسب أنني أعرف المدينة تماماً؛ على الأقل، لأنني كنت دائماً أوجّه أصدقائي الذين يقودون إلى الطرق الصحيحة. وما أن حصلت على رخصة سوق، وقدت العربة بنفسي، ولوحدي، حتى اكتشفت أن آخر شيء أعرفه في المدينة هو شوارعها، واتجاهاتها، وإلى أين تقود؛ ففي اللحظة التي قدت فيها متجهاً إلى أكثر مكان معروف بالنسبة لي – بيتي، وجدتني وسط أقاص من المدينة، لم أرها من قبل. وتحديداً كنت أقترب من أسطبل خيول أو شيء كهذا.
ولهذا، استدرت عائداً أدراجي ببطء، كما يتوقع أن تكون استدارة سائق حديث قيادة مثلي. وبينما كنت أستدير لمحت رجلاً مسناً لفتني على نحو خاص، يقف على الرصيف بانتظار عربة أجرة، أو ما شابه. وما أن تجاوزته حتى أدركت أنه لفتني على نحو خاص لأنه بالذات يشبه جدي؛ فأوقفت العربة، وعدت إلى الخلف ووقفت أمامه. وهنا، أدركت أنه لا يشبه جدي، ولكنه كان هو نفسه، يقف وإلى جواره كيس قمح من تلك النوعية الموسومة من الوسط بخط أحمر.
كان جدي مات قبل أزيد من ثلاثين عاماً؛ أي أن تذكّره توقف عن إثارة العواطف الحزينة، وأصبح، منذ وقت طويل، أشبه بتذكّر حكاية هادئة ممتعة. إضافة إلى أنني أيقنت على الفور أن ما أراه، ويحدث لي، ليس سوى منام مليء بالصور المستقطعة من الماضي. ومع ذلك، كانت بي بعض اللهفة الطبيعية، التي جعلتني أجمد محدقاً في الوجه الغائب منذ عقود.
ولم يتأخر جدي، كعادته، بردة فعله؛ أطل من النافذة الجانبية، وقال بنبرة حملت بعض التأنيب:
- -أخيراً جئت! لقد تأخرت! أين كنت!
فاجأني قوله، فلبثت صامتاً. ولم يعجبه ذلك، واندفع يقول بالنبرة ذاتها:
- -ما بالك انبلهت هكذا! انزل وساعدني في وضع الكيس في العربة!
اندفعت على الفور خارجاً، كمن يستدرك وضعاً خاطئاً وجد نفسه فيه على نحو طارئ، وساعدته في وضع الكيس في العربة. وفي أثناء ذلك، فهمت منه أنه كان على موعد معي، لنقل ذلك الكيس إلى امرأة ما. ولفتني أنها، كما عرفت، تقيم في حي عصري على أطراف المدينة يقطنه، بالعادة، مصرفيون ومدراء تنفيذيون ومختصون بمهن تصنف عادة جزءاً من القطاع الوهمي في الاقتصاد، أو فلنقل غير الإنتاجي.
وكان هذا أمر يبدو لي أكثر غرابة من حقيقة أنني أتعامل مباشرة مع جدي الذي مات منذ عقود؛ غير أنني ما لبثت أن أدركت أن هناك ما هو أكثر إثارة للاستغراب من هذا وذاك، إذ طوال الوقت التالي الذي كنت أقود فيه بجدي، كان يجري ويتلقى مكالمات هاتفية من نساء عرفتهن، أو عرفهن أي من إخوتي، فترة شبابنا المبكر، ولم يكن يجد حرجاً في أن يذكرنا في حضوري، ويتبادل معهن تعليقات خاصة بشأننا. وبدا لي أنه كان في محادثاته الهاتفية يدير بالنيابة عنا شؤوناً عائلية، فاتنا التنبه إليها، أو تملصنا منها بذرائع وتبريرات تتيحها «القوانين» الاجتماعية السائدة.
بعد وقت قصير، وبفضل إرشادات كان يطلقها جدي بين الفينة والأخرى، في خضم مكالماته الهاتفية، وصلنا الحي المقصود، وأوقفت العربة في مرآب البرج السكني المعني، الذي يفترض أن تلك المرأة التي يقصدها تقيم فيه.
قال جدي:
- -دعنا نصعد، ونسألها أولاً أين تحب أن نضع كيس القمح!
فاتجهنا إلى المدخل، وهناك لفتني أن رجال شركة الأمن والحماية الذين انتشروا في بهو الاستقبال في البرج يعرفون جدي جيداً، ورحبوا به مستخدمين كنيته التي يعرفها أهل بلدتي. ثم لاحظت أنه تعامل بيسر مع المصعد ذي التقنية الخاصة، وكان يعرف ما يفعل تماما.
وأمام باب الشقة الواقعة في طابق علوي، يرتفع بعدد طبقات أكثر من عدد السنوات التي مرت على موته، رفع جدي يده نحو جرس الباب، وتريث ثم استدار نحوي وقال:
- -ألا يربكك أننا نشبه فتية توصيل الوجبات السريعة!؟
شددت كتفي بلا مبالاة، مبدياً عدم اهتمامي، وحينها قال:
- -إذن، لِمَ عليّ أن أفعل كل شيء عنك. ربما يجدر بك أنت أن تطرق الباب بنفسك!
وتنحى جانباً، في دعوة لي أن أقف مكانه وأطرق الجرس. فخطوت ببطء، ووقف حيث كان يقف، ورفعت يدي، مبرزاً سبابتي، ولكني قبل أن أضعها على مفتاح الجرس، جمدت يدي فجأة. وهنا، استدرت إلى جدي، وقلت:
- - أعرف أنني أحلم!
اكتسى وجهه على الفور بالغضب، وقال:
- -أنت فعلاً تفسد كل شيء جيد في حياتك، حتى منامك!
لم يثرني غضبه، فقد كنت أعرف أنني أحلم، ولهذا لم يكن في كل ما جرى شيئاً يثير عجبي. ولكن حيرني جداً، حينما أفقت من نومي، أنني وجدت في عربتي كيس القمح الموسوم بخط أحمر، هناك في المكان الذي وضعناه فيه أنا وجدي المتوفى، وحيث لا يزال يرهقني بوجوده في عربتي، ويضعني باستمرار أمام فكرة ملحة تؤكد أن عليّ أن أوصله إلى صاحبته، التي تنتظره من دون ريب.
وينتابني، اليوم، إحساس أن صاحبة تلك الشقة العلوية، التي عجزت عن طرق بابها، ليست سوى قطعة أرض بكر!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.