كلمة الساموراي وصكوك رجال الأعمال

كلمة الساموراي وصكوك رجال الأعمال
الرابط المختصر

 

 

 

من مأثور ما قيل في أسباب وجوب الإسلام ورسوله الكريم "إتمام مكارم الأخلاق". وكانت أكثر الصِفات الحميدة في الرسول الصدق والأمانة؛ فهو: الصادق الأمين. ولقد ذهب عدد من أصحاب الاجتهاد إلى أنّ المقصود بـ"مكارم الأخلاق" بسط الرحمة والعدل على الأرض والمساواة بين الناس، دون تمييز، وفي تحقيق ذلك تتحقق مَرضاة الله.

 

ومن مأثور ما قيل، أيضاً، في الصفات الأساسية التي يتحلّى بها الساموراي، إضافة إلى كونه المحارب غير الهيّاب والشريف عند اليابانيين، الصدق والإخلاص. وكان يُكتفى من هذا الرجل النُطْق بالكلمة لتتحوّل بعد ذلك إلى وعدٍ بالإيفاء الأكيد، لا مجال على الإطلاق التشكيك به، وإنْ طال الزمن. كما أنه من المُخِلّ بشرفه مطالبته بـأن يُقْسِم أو يَحلف! وهم في هذا الأمر يتفقون مع السيد المسيح في بغضه لهذه العادة التي أجراها ضرباً من الإيمان ناهياً عنها بين أتباعه. وبحسب إينازو نيتوبي، واضع كتاب "البوشيدو: روح اليابان"، والذي ترجمه للعربية نصر حامد أبو زيد وكتب تقديماً وافياً له: "كانت كلمة الساموراي وحدها كافية؛ إذ تملك من الوزن والثقل ما يجعلها وسيلة لعقد الاتفاقيات ولتنفيذها دون حاجة إلى تدوين هذه الاتفاقيات، بل كان التدوين يعد انتقاصاً من كرامة الساموراي. والقصص التي تُروى عن أولئك الذين ضحوا بحياتهم تكفيراً عن عدم مقدرتهم على الوفاء بوعودهم أكثر من أن تُحصى".

 

وهذا يعني، في مقام الفعل المجازي الدالّ، أنّ الختم بالدم كان تقليداً متبعاً للتعبير، بطريقة حرفية، عن صدق تحقيق الوعد.

 

استناداً إلى المغازي العميقة لهذه الأعراف والمعتقدات، الحاوية لمنظومة قِيَم أخلاقية والحاملة بالتالي لطرائق خاصة بالحياة، انتظمَت مراتب الرجال على صعيد العمل، والإنتاج، والمكانة، على النحو التنازلي التالي: الفارس المحارب الساموراي أولاً، ثم الفلّاح، ثم الصانع، وأخيراً يأتي التاجر. فالأخير، ولضرورات تجارته الهادفة تحقيق أكبر قدر من الثروة المالية/ المادية، يلجأ لضروب من الكذب، أو الكلام المعسول المبذول بلا حساب (الرياء)، ما أدّى إلى استبعاد التجارة، دون كل المهن في المجتمع، استبعاداً تاماً من مجال العمل العسكري. فليس للساموراي أن يعمل، إذا ما أراد إلى جوار القتال - وكهواية، سوى فِلاحة الأرض، وبذلك تتكون ثروته نتاج جهده في تخصيبها وإخراج غِلالها.

 

لا مجال لمزج التجارة بالسلطة السياسية، أو التحرك في الفضاءات السياسية؛ ولقد أدرك مونتيسكيو قيمة هذا التقسيم التراتبي الياباني، حين لاحظ أن إقصاء طبقة النبلاء عن أعمال التجارة كانت سياسة اجتماعية جديرة بالتقدير، لأنها حالت دون تكدس الثروات في أيدي الأقوياء ذوي السلطة.

 

إذن هو الزواج المحرَّم بين المال والسلطة، ففي ذلك خراب مؤكد لبنيان الدول؛ حيث يشير صموئيل دل Samuel Dill مؤلف كتاب "المجتمع الروماني خلال القرن الأخير للامبراطورية الغربية "Roman Society in the last century of the Western Empire ، والمنشور أول مرة عام 1899، إلى أنّ أحد أسباب انحلال الامبراطورية الرومانية كان السماح للنبلاء بممارسة التجارة، الأمر الذي أدّى إلى اجتماع الثروة والسلطة في أيدي بعض العائلات القليلة في مجلس الشيوخ!– بحسب ما ورد في كتاب إينازو نيتوبي.

 

إنّ أخلاقيات السوق الناشئة عن مرحلة الإقطاع وما بعد، التي استوجبت توثيق العهود والوعود ذات الصلة بالأعمال التجارية/ الاقتصادية على شكل صكوك مصرفية ذات ضمانات قضائية جزائية، إنما تعني - إذا ما قمنا بالحفر عميقاً في أسبابها الأولى - فقدان الثقة بالكلمة المنطوقة. فالكلمة لا تساوي شيئاً، الكلمة تخلو من أي ثمن، ولا تكتسب مصداقيتها إلّا إذا "رَبَطَت" صاحبها بصكٍ مدوَّن على ورقة توثيق مكاني وزماني والتزام. (ولربما ترينا مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" لحظة الصدام بين كلمة الشرف من جهة والعهد المدوَّن من جهة أخرى)!

 

هذه واحدة. والثانية، أنّ الحل الأخير للخلاف الذي ينشأ بين اثنين، يكون في يد القضاء/ القانون، الذي يبدأ وينتهي بوضع اليد على كتاب الإيمان (القرآن، والإنجيل)، والنطق بالقَسَم على الإدلاء بالحقيقة!

 

جملة ما سَلَف يشير إلى انتقاص فادح في مصداقية الكلمة المنطوقة، وبذلك هو انتقاصٌ مسبق من شرف الرجال والنساء الناطقين بها، وتشكك فيه وريبة تنال منه! وذلك كلّه نتاج حاضنة أولى ومؤسِسة تُسَمّى "تجارة". والتجارة، بصنوفها كافة، أعمال اقتصادية وأصحابها يُدعَون بـ"رجال أعمال".

 

لا بأس بهؤلاء وبأعمالهم؛ إذ لكلّ مقام مقال يخصّه وحده، وليس في هذا المقام مقالي في شؤون تلك الأعمال.

 

ولكن: لماذا هذا الاندفاع الكبير الذي يبدونه في سبيل الوصول إلى المواقع السياسية الحسّاسة، في الأجهزة التشريعية والتنفيذية، وهل يكفي ما يملكون من ثروات لتكوين حالات من الثقة بـ"صدق" وعودهم المبذولة بسخاء؟

 

لماذا لا نطالبهم بصكوك خاصّة بهذه الوعود والعهود، أسوة بالتي يطالبوننا بها حين يعيشون الشطر الثاني من "شخصيتهم" ثنائية الوجه؟

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك