كفانا وصاية على وعينا وعقولنا

كفانا وصاية على وعينا وعقولنا

أريد، وبلهفةٍ كاملة، أن أصدّق بأنّ الحكومة الجديدة قيد التشكيل (أكتب فجر الأربعاء 9 شباط) قد انتوت، حقاً وفعلاً، إجراء حزمة إصلاحات وتغييرات تطال مختلف جوانب حياتنا، وعلى نحوٍ جذري بعيد عن التسويف والترقيع وأنصاف الحلول، تكون بمثابة الاستجابة المتفهمة لمطالب قطاعات المجتمع الأردني بكافة تلويناته. أريد أن أصدّق لأنني، إذا لم أكن كذلك، فلسوفُ أدخلُ منطقة الهلع وأشارف عَينَ العاصفة ونذيرها. الهلع من عجز الحكومة على تحسس وإدراك وفهم أن حجم الاحتقان المتزايد داخل الإنسان الأردني بات قابلاً للانفجار، مما يضعنا جميعاًً، كوطن ومواطنين، في خطر فشل المحاولة الأخيرة للخروج من أزمة المعيشة، وأزمة الثقة في الأساس. وعين العاصفة بالتالي، نتيجةً لازمةً وحتميّةً لوصولنا الحائط المسدود. عندها؛ تنفتحُ جميع الاحتمالات.. وهي احتمالات منفلتة من التحكم بها حين تبدأ آلياتها وميكانيزمات منطقها بالدوران.

لستُ مزمعاً التطرق إلى الجوانب السياسيّة والاقتصاديّة بما تتضمن من موضوعاتٍ لا تحتمل التأجيل، فذلك شأنٌ بقدر ما أنخرطُ يومياً بالحوار حوله ومناقشة الآراء بخصوصه، إلاّ أنّ غيري أجدرُ مني بالكتابة عنه وفيه بكل تأكيد. كما أن هذه المقالة ليست مخصصة له، الآن على الأقلّ.

ما أريد الإشارة إليه، وهي إشارةُ ابتداءٍ واستهلال وليست (بأي حال من الأحوال شاملة للموضوع)، ذات صلة بمفهوم الرقابة تحديداً. أي ذات علاقة بحريّة الرأي والرأي الآخر.

فإذا كنا بصدد حكومة تبتغي الإنصات حقاً لآراء أبناء المجتمع من ذوي الاختصاص، والوَجَع، والإصابة بالأذى وأخذها بعين الاعتبار، فعلينا عندها أن نتناول قانون المطبوعات والنشر واحدةً من أولوياتنا في مراجعته. مراجعة ضرورته من حيث الوجود في مرحلة نضج الوعي الشعبي الآن، بعيداً عن الفذلكات والتشاطُر في تسويغ مواصلة إشهاره سيفاً مسلطاً فوق الرؤوس التي تمارس التفكير حقاً إلهياً، مثلما هو حقٌ دستوريّ ومدنيّ وإنسانيّ.

قانون المطبوعات والنشر يحتاجُ إلى إعادة نظر من حيث وجوب الوجود. وإذا ما كانت هنالك من حاجة ماسّة متفقٌ عليها إلى ما "يَضبط" ما يُطبع ويُنشر؛ فإنّ المعنيين بهذا القطاع والعاملين فيه هُم الأولى والأجدر بمناقشة واقتراح تلك الضوابط وتعيينها وتحديد ظروفها وحدودها، لا حَفَظَة القانون وأساتذته وحدهم.

الكُتّاب، والصحفيون، والناشرون هم أصحاب الشأن أولاً وأخيراً. ولأنهم كذلك، على الحكومة الجديدة التشاور معهم للتداول في مبدأ وجوب الرقابة ممثلة بدائرة المطبوعات والنشر، والوصول، بعد ذلك، إلى ما هو صالحٌ فعلاً، بلا تشبث بالتعميمات المراوغة والتستُّر بحجج الأخلاق والمفاهيم الاجتماعية العامة والسلامة الوطنيّة، ليكون دليلاً أخلاقياً وميثاقاً شَرَفياً.    

لم يعد مجتمعنا قاصراً وأُميّاً وجاهلاً ليحتاج إلى مَن يراقب، بالنيابة عنه وعن ضميره ووعيه، ما يُطبع ويُنشر. لم يعد بحاجة لأدّلاء ومُربين يعلّمونه "مكارم الأخلاق" و"مفاسد الأفكار" و"محبّة الوطن." لم يعد راغباً في أن يُنيبَ عنه قارئاً عبقرياً ونابهاً واستثنائياً يرشده، إفساحاً أو منعاً، للكتابات التي ينبغي أو لا ينبغي الاطلاع عليها!

كفانا وصاية على عقولنا ووعينا!

كفانا إحالات على المحاكم وإرعابنا بالقصاص والتغريمات لأننا نفكّر على نحوٍ مختلف.

كفانا تمسكاً وعناداً بالإصرار على أُحاديّة القراءات الواحدة لضربٍ من القُرّاء، بما يعني نفي وإقصاء غيرها من قراءات مغايرة لقُرّاءٍ يرون الكتابةَ على نحوهم.

كفانا جلوساً فوق قاعدة ذهبيّة كاذبة تقول: كافرٌ، أوغير وطني، أو إباحيّ، تهمةً نوَّجهها لكلّ مَن يغاير قراءتنا.

كفانا (وهنا أجدني أصرخُ بملء الصوت) تغولاً من دائرة المكتبة الوطنيّة على المخطوطات المحالة عليها من أجل تسجيلها (تسجيلها لحفظ حقوق مؤلفيها فقط ـ بحسب القانون) واستباحتها لقراءات المدراء فيها المتشككة، والمجتهدة بحسب فهمهم كأشخاص، والتي قامت من جهتها ومن دون وجهٍ قانونيّ باستعارة دور دائرة المطبوعات والنشر كرقيبٍ مسبق يعترض ويمنع ويحيل على "الجهات المختصّة"! هذا الدور الذي أُلغي هناك في الدائرة، فاعادوه إلى هنا في المكتبة من تلقائهم!

أوليست كلّ تلك الحيثيات بحاجة إلى حسم نهائي، لا إلى تسويفٍ وتمييعٍ لا ينتهي سوى بالترقيع!

أضعُ هذا بين أيدي الحكومة الجديدة الواعدة بالإصلاح، عسى الحال ينصلح.

وأريد أن أصدّق.

أضف تعليقك