"قلب الحبّ الأحمر"، أم "جمجمة وعظمتان"؟

"قلب الحبّ الأحمر"، أم "جمجمة وعظمتان"؟
الرابط المختصر

حُزمة أوصاف وتعابير تصادَت على وَقْع قتل العاملين في جريدة شارلي إبدو في باريس، كان لا بدّ لي من عرضها للمساءلة هي نفسها. بيني وبين سيول التعليقات المتضاربة الآتية من كلّ فجٍّ عميق، وتطاير الفتاوى المتناقضة الهابطة من فضاءات تتعالى وتتعالم وتريد تعليمنا، أو تذكيرنا، بالفرق بين الخطأ والصواب، بين الحق والعدل، أقول: تصادَت تلك الأوصاف والتعابير، وها أعرضها هنا لنتفكّر بها معاً– دون أن نتفق حيالها بالضرورة -، غير أنّ التفكُّر مطلوب بإلحاح في زمن منطوقات كثيرة تصدر عن أهواء شتّى.

حرية التعبير، الإرهاب، الثأر، العنف، التطرف، التسامح، الإيمان، الدين، التعصُّب، الإنسان، الجماعة، المجتمع، العدالة، المساواة، إلخ. كلمات تشير إلى مسائل هي مفاهيم في جوهرها ومطلقة كعناوين، وبالتالي فإنها موضع اتفاق إنساني أوّليّ، لكنها، في وجهها الآخر عند التطبيق، عرضة للنسبية والتأويل على ضوء ترجمات الأفراد والجماعات المختلفة لها. ولأنها كذلك، فإنّ التوافق عليها يبهت ويتلاشى ويختفي ليحتلّ مكانه الاختلاف، فالخِلاف البالغ في ذروته حدّ القتل! تماماً مثلما ينقلب العناق الودي بين اثنين تحت شعار "قلب الحبّ الأحمر" السابح فوقهما كالملائكة، ليصبحَ، عند قلبنا للصفحة التالية من الحكاية، مشهداً دموياً لجريمة طعن مزدوج يرفرف فوقها علَم القراصنة الأسود "جمجمة وعظمتان"!

على هذا النحو نرى كيف ينشطر المفهوم الواحد المتفق عليه، لتتحوّل الجريمة أو الخطأ أو الإساءة أو القتل، إلى أفعالٍ تتصف بالفضيلة، والإيمان، والنُبْل، وحرية التعبير، والشجاعة، وصون كرامة الأنبياء!والعكس صحيح أيضاً إذا ما قلبنا تلك الأفعال على قفاها، وتعرضت لـ"قراءات" مغايرة! ففي مكانٍ ما وزمنٍ ما ولدى فئةٍ ما يكون الإقدامُ على القتل العَمْد المخطط له ثأراً حلالاً، وقصاصاً مستحقاً، وعملاً بطولياً. بينما هو، في اللحظة ذاتها ومكانٍ آخر ولدى فئةٍ أخرى جريمة عارية بكامل أركانها، واستلالاً غير مبرر لأرواح بريئة، وعملاً جباناً!

الوجه والقفا لفعلٍ واحد!

أيّ تناقض جوهريّ هذا في تطبيقنا لمفهومٍ واحد هو "أخلاقيٌّ" في جوهره ومبتدئه، ما كان ليُسَنّ إلّا ليتساوى البشر ويتحدوا، جميع البشر، في النظر إلى شؤون الحياة وكيفية العمل على الخروج من أزماتها. وأيّ مفارقة مريرة نجدها عندما تتحول "مفاعيل العقل الناضج"– أو الراشد إنْ شئتم -، من وسائل لتفكيك المشكلات المؤقتة إلى أدوات لخلق الإشكالات المزمنة!

*   *   *

سأتعرض هنا لمفهوم حرية التعبير، مكتفياً به هذه المرّة، آملاً أن نتفكَّر بالمفاهيم الأخرى، أو بعضها، في مقالات تالية.

ثمّة قولان تحولا إلى أيقونتين معولمتين لدى شعوب العالم. الأول: "أختلفُ معك بالرأي، لكني مستعد لأن أضحي بحياتي دفاعاً عن حقك بالتعبير." والثاني: "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين"، آخذين بالاعتبار التعبيرَ جزءاً رئيساً من مسألة الحرية.

حسَنٌ. ولكن (لا مهرب لنا من لكن هذه) كيف نقوم بترجمة ورسم الحدود التي تنتهي عندها حريتنا لتبدأ حرية غيرنا؟ وكيف نفهم التعبير في تطبيقه العمليّ؛ أهو فقط بالكلام والتصريح والكتابة، أم يتعدّى ذلك ليتمثّل، أيضاً، في أفعالٍ بعينها؟ هنا، ولأننا دخلنا في التفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل كما يُقال، فإننا سنواجَه، وعلى الفور، بمسألة العنف. العنف في حق "إبداء الرأي"، والعنف في حق "عدم الموافقة عليه ورفضه." وكذلك، كيف نعبِّر عن أنفسنا وعَمّا نعتقد ونؤمن، أو عمّا لا نعتقد ولا نؤمن؟ فالكيفية في ذاتها كفيلة بالحكم على "أخلاقية" التعبير ممايفتح مجالاً للاختلاف.

سأحاول تجسيم ما أعنيه: عندما رسمَ رسّام جريدة شارلي إبدو ما رسمَ، منطلقاً من مبدأ حريته في التعبير عمّا يعتقد ويؤمن، هل فكَّرَ، ولو للحظة واحدة، في الأثر السلبي والمؤذي والجارح للرسم على مَن يعتقدون ويؤمنون – بل ويقدّسون - الشخصية التي جعلها موضوعاً للسخرية في رسمه؟ هل تخيَّلَ مدى الفتنة وعمقها التي ينخرط هو في تأجيج نيرانها، جارّاً معه فيها جماعات بأكملها؟ وثقافات بمجملها؟ وأتباع ديانات مختلفة يعيشون معاً؟ حتماً، سيقول: حُرٌّ أنا، وحريتي مكفولةٌ بقانون بلادي، وعلى رأسها حرية تعبيري، ولم أقصد الإساءة!

وبالمقابل، هل فكَّر الرجلان اللذان عمدا إلى اقتحام مكانٍ مفتوح، غير محروس، وفتحا نار سلاحهما ليقتلا مجموعةً مجتمعةً، غير مسلحة، عزلاء، عاجزة عن الدفاع عن نفسها، في طبيعة الفعل ومُسَمّاه أصلاً؟ هل فكّرا أنّ الأذى الذي لحق بهما بسبب الفعل المؤذي (رسم على الورق)، سيكون من الإجحاف للمنطق الصِرْف، والأخلاق الحميدة، والفروسية الحقّة وصفه بـ"البطوليّ"؟ وهل حلل الإسلام، حقاً، قتل العُزّل وهم غافلون؟ وهل يحرّض الإسلام على أن يكون ردّ المسلم على مَن أساء إليه، على الورق، بإراقة دمه وزهق روحه وإخراجه من الحياة! هل فكّرا أنهما، عبر فعلهما بكل تفاصيله كما هي، إنما عملا على تأكيد ما ذهبَ إليه الرسّام.. لا نفيه؟ وأنهما، بأداة القتل وكيفية أدائه وبالشعار/ الذريعة الذي هتفا به، قد أساءا لِمَن جاءا للثأر له أكثر ألف مرّة من إساءة الرسّام؟ وأنهما طَّبقا، حرفياً، المثل الشعبي: "جيت لتكحلها عميتها!" حتما، سيقولان، كما قال الرسّام قبلهما: حُرّان نحن، وحريتنا مكفولة من كتابنا، وعلى رأسها حرية تعبيرنا الصادق، ولم نقصد الإساءة!

ربما يقول قائل: إنما الأعمالُ بالنيّات! وهذا أيضاً بحاجة للتفكيك. فما معنى أن تقلع عين صاحبك بضربة من يدك بذريعة أنّ نيتكَ طرد الذبابة عن وجهه، مثلاً! أو أن تقتلَ شخصاً صادف أن جاء في طريق رصاصة أطلقتها في "فَرَح" أخيك! إنّ الحكم على الأعمال لا يكون إلّا بنتائجها. بخواتيمها. فالنوايا الطيبة، يقول البعض، أو الساذجة، تقود أحياناً (أم دائماً؟) إلى الجحيم! الجحيم الذي أسمح لنفسي، هنا، بوضعه قيد السؤال، وسيكون مصير مَن ممن نسجوا خيوط هذه الحماقة/ الجريمة؟

*   *   *

العالم السياسي كاذبٌ ومنافق بامتياز. وخاصةً ذاك الجزء الأوروبي - الأميركي، الأكثر تصديعاً لرؤوس شعوب بقية الأجزاء بجعجعة رؤسائه عن الحريات، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، ومحاولات التوازن في التنمية بين الشمال والجنوب، إلخ. طبعاً ذلك كلّه وفقاً لمواصفات شركاته الكبرى عابرة القارات، ومقاييس مصالحه الإقليمية والعالمية. ما علينا؛ بات هذا درساً مكروراً درجة القرف. لقد توافدت، الرؤوس الكبيرة، إلى باريس لتتصدر مظاهرة الشجب العالمي للإرهاب، متخفيةً في دماء ضحايا الجريدة، وكأنها تقول ببراءتها من تلك الدماء التي ما سالت إلّا على أيدي إرهابٍ كانت هي، الرؤوس الكبيرة ذاتها، الراعي الأول له والأسخى في تغذية تنظيماته في بلدانها/ بلداننا. وكانوا يكذبون. هم دائماً يكذبون. (بنيامين نتنياهو جاء باريس لشجب الإرهاب! هل نصدّق!)

ولكن، ثمة كلمةٌ سواء قيلت خارج عجيج باريس، صادرة عن ضمير لم تعد تلك الرؤوس تعترف به.

"علينا المحافظة على حرية التعبير، ولكن دون الإساءة إلى مقدّسات البشر وجَرحها." هذه كلمة البابا فرانسيس. موجزة، مكثفة، ليست ملتبسة ولا ترطن وتلوك ما قرفنا سماعه. وإنها كلمةٌ سَواء لأنها أعادت لكلّ الذين فقدوا ذاكرتهم معنى الحرية الأوّل: المسؤولية. فالحرية مسؤولية بكل المعاني، وإنها لثقيلة جداً لا يقدر عليها سوى قليل البشَر، وليس رؤساء عالم هذا الزمان من هذا القليل. فما بالنا بصنائعهم، بشتّى شعاراتهم، الذين يعلون الصوت حد التصديعبين جنبينا!

وأخيراً: هل نتفكّر جيداً تحت "قلب الحبّ الأحمر" الملائكي،

أم نتحامق في الظل الأسود لـراية "جمجمة وعظمتان"؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

 

أضف تعليقك