فَلْنَقُلْ قولاً مغايراً

فَلْنَقُلْ قولاً مغايراً
الرابط المختصر

 

 

 

السؤال عن مستقبل الكتاب العربي بالعموم، موضوعاً كان أو مترجماً، وذاك المنشغل بمعالجات ذات أبعاد فكريّة وثقافيّة ليست بالضرورة تقنيّة، أو تستند إلى توفير المعلومات وشرحها؛ إنما هو الذي ينبغي التركيز عليه لاتصافه بعدم الخضوع للحظة راهنة تفي القارئ حاجة معرفيّة آنيّة، ثم تزول بزوال هذه الحاجة. أو تتلاشى فائدتها تِبَعاً للقفزات العلميّة الهائلة التي تعمل على إلغاء سابقاتها في زمنٍ لم يسبق لنا، أو لأسلافنا، أن شهدوا تسارعاً كتسارعه.

 

إذن: نحن حيال السؤال المتعلق بالكتاب المتعدي للحظة إنتاجه وراهنيتها، والدائم في خلق حالة تفكير وإعادة تفكير لا تتوقف عند حد، أو تنتهي صلاحيتها فور الانتهاء من قراءة الكتاب. وربما تشكِّل كلمة "المستقبل" هنا رابطاً تأسيسياً وحيوياً في آن بين سؤال المستقبل وكتاب المستقبل، وبالتالي: مستقبل الكتاب! الكتاب الذي يتضمن أسئلة الذات الكاتبة عن مستقبلها ومستقبل مجتمعاتها الراكدة (في قِيَمها المحافظة على شكليتها ورنين ألفاظها المفخَمة) وسط تغيرات مذهلة تجتاح العالم وتجتاحها. الكتاب الطارح سؤال المصير، والمآل، والآتي بدافع الخوف العارف أنّ مجتمعاً يرسف باطمئنان تاريخي فريد (رغم ظاهر الانتفاضات والهَبَّات النبيلة التي شهدنا بداياتها ثم سرعان ما انكفأت لتتحوّل إلى حروب أهلية أخرجَت مِناأكثر المفاهيم انغلاقاً وظلامية) داخل حالات التخلّف المزخرف بأحدث مظاهر التكنولوجيا؛ لهو مجتمع مُقْبِلٌ على الموت بشهوة فائقة وعمياء!

 

فَلْنَكُنْ أكثر تحديداً: تبدأ المعرفة المنتجة لحظة الشروع بطرح السؤال. السؤال الخارج من منطقة الحاضر المأزوم ابتغاء القبض على إجابة تستوفي الشروط اللازمة لتوفير مستقبل خالٍ من أزمة هذا الحاضر. هكذا هو التاريخ: المواجهة الدائمة للعراقيل المتحدية للإنسان في بناء مستقبله وفق شروط بمستطاعه السيطرة عليها لتيسير حياته وتسييرها نحو الأفضل. ببساطة الأشياء ينبني تاريخ الإنسان على هذا النحو. ولذلك؛ فإنَّ أي تخاذل حيال جرأة السؤال وحِكمة طرحه في أوانه، كاملاً من دون نقصان، بسببٍ من حسابات ظَرْفيّة، فإنَّ نتائجه ستكون وبالاً ووابلاً لا ينتهي من المآزق المتحوّلة، مع الوقت، إلى مصائب فادحة.

السؤالُ الناقص سؤالٌ أحْوَل في أحسن الظروف، أو سؤالٌ أعمى في الأسوأ منها.

 

السؤالُ الناقص بسببٍ من فقدان الجرأة في مبدأ طرحه، والصراحة في سياق هذا الطرح، إنما هو سؤالٌ جبان، وليس من الجائز حيال محاكمات التاريخ والأجيال اللاحقة أن يلجأ صاحبه، بصرف النظر عن هويته وماهيته، إلى سَوق شتّى المبررات التي حالت دونه واكتمال سؤاله. فالمسائل لا تُقاس، في خواتيم حياتنا ومآلاتها، إلّا بنتائجها المتأتية عن مقدماتها. فإنْ كانت المقدمة ناقصة، فلن تكون النتيجة إلّا شوهاء وعاملة على التشويه أيضاً.

 

من هنا يبدو أن سؤالي حيال مجمل مسألة الكتاب والسؤال عنه يتمثّل في التالي:

هل نريد فعلاً، ومن دون مواربة وإنشائيات الكلام الفضفاض، أن نعزز من مكانة الكتاب في حياتنا؟ هل نحن، حقاً، نحترم الكتاب استتباعاً لاحترامنا للكُتّاب داخل مجتمعاتنا العربيّة، أم لسنا سوى الذين يتواطؤون على أنفسهم وينافقون غيرهم بادّعائهم الحِرص عليه على مستوى القول في مناسبات، والاستهانة به وإنزال المَهانة بمنتجيه على صعيد الفعل طوال الوقت؟ هل يعمل المعنيون بتربية الأجيال الجديدة على تأسيس علاقة إيجابيّة ومستمرة بينهم وبين الكتاب خارج المقررات الجامدة المدرسيّة وسواها، وفي إطار حشو المعلومات دون فحصها ومناقشتها بتفكيكها (هل كان إلغاء مقرر الفلسفة والمنطق من مدارسنا مجرد اجتهاد فردي بريء فرضه وزير تربية سابق؟!)، بحيث يصير لهؤلاء بعيد خروجهم من المراحل الأكاديميّة – لا بل خلالها كذلك – متابعة ما هو غير منهجي ومقرر، وبما يتناسب والتوجهات الفردية الخَلّاقة لكل فرد/ مواطن؟

 

بناءً على حرفية وروح أسئلتي هذه، أجدني أمام خُلاصة تقول: ليس مهماً إذا ما كان الكتاب الإلكتروني سيحلّ محل الكتاب الورقي في مقبل الأيام، أم سيُبقي الأخير لنفسه مكاناً لدى القُرّاء. من جهتي، أرى في سؤال كهذا ضرباً من التَّرَف الجاهل، ورحلة في فراغ المعرفة والمعلومة مما نواجهه الآن والمتمثل في الإقبال المتناقص على القراءة. وقراءة الكتب على وجه الخصوص، تلك الكتب المتجهة إلى الأبعاد التي تجلبها لنا مجموعة المعارف المتأتية عن طوفان المعلومات.. وليس المعلومات نفسها، وما تطرحه من تحديات تطال حياتنا اليومية، في الراهن كما في الآتي.

 

ليس مهماً على الإطلاق (ونحن نناقش هذه المسألة) إذا ما تراجعَ الكتاب الورقي لصالح الكتاب الإلكتروني؛ فالرجاء كل الرجاء هو في الإقدام الراغب والملحاح على قراءة الكتاب نفسه. عندها؛ نكون قد حافظنا على جوهر إنسانيتنا كطُلّاب للمعرفة لا نشبع، تأتت لنا ورقاً، أم على شاشة كمبيوتر، أو آي باد، أو حتى من خلال الهاتف النقّال الذكي، حيث بمقدورنا إعادة نسخها ورقاً من جديد.

 

من هنا يستقدمُ الفكرُ نفسَهُ طارحاً أسئلته المجبولة بخلاصة المعلومات، متجاوزاً حدودها نحو الناتج عنها، وما سوف تجلبه لنا/ أو علينا من تحديات تكتنف مستقبلنا. من هنا أيضاً يصير لنا أن نسأل عن الكتاب الذي يدفعنا للتفكير في حاضرنا من غير تسليم بـ"حقائقه!"، والتشكيك في "حتمياته!"، والريبة في "وجاهته!"، واستنكار صروفه في "التدبير!" المغلوط لشؤونه. يصير لنا أن نتوجه بالسؤال الاستنكاري لجميع صنوف الرقابات على أساليب تفكيرنا، والمسؤولين عنها، مهما علا شأنهم وعَظُمَ شأوهم، ومهما تحصنوا بأوعية "القانون" دون الأخذ في الحسبان جوهر وروح ما تتضمنه تلك الأوعية.

 

الكتاب مرآة لا تكذب في كشف حقيقة المجتمعات المنتجة له، وتلك التي لا تنتجه، والأخرى التي تحول دون إنتاجه، والرابعة التي تأمر بإنتاجه وفقاً لما يناسبها، والخامسة التي تحظر انتشاره وقراءته بذريعة "المحافظة" - على جميع حالات التكلّس السالفة بحجّة سلامة القِيَم الموروثة، وبذلك: يصبح الكتاب مرآة لا تكذب حين تتوجه بإصبع الاتهام لمجتمع لا يقرأ، لا بمجرد السكوت على قمعه وقمع كُتّابه؛ بل بالمشاركة الفعلية، الواعية وغير الواعية، برفع مصاطب المحارق له، ومحاكم التفتيش لمبدعيه، وإقامة حُجّة "الهرطقة" الجديدة لكل مَن يساند حريته في أن يقولَ قولاً مغايراً!

 

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.