يوم 25 أكتوبر الجاري، أفاق العالم على انقلاب جديد في المنطقة العربية – وهذه المرة في السودان. ورغم أن السودان ليس غريبا على الانقلابات -- بدءا بأول انقلاب ناجح للعسكريين ضد حكومة سودانية مدنية في العام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود وصولا إلى انقلاب عمر البشير العام 1989، مرورا بانقلاب جعفر النميري العام 1965، فإن هذا الانقلاب مختلف تماما. فهو جاء بعد ثورة شعبية عارمة في العام 2019 انتهت بتسمية مجلس سيادي تقاسم فيه العسكر مؤقتا ومناصفة الحكم مع مكون مدني ممثل لأربعة اتجاهات من حركة الحرية والتغيير. وهو أيضا جاء بعد انتهاء ثورات الربيع الربيع العربي التي انطلقت في العام 2010 والتي كان السودان من الدول العربية القليلة التي لم تشارك فيها آنئذ. ولكن الأهم أنه جاء بعد ثلاثة أشهر بالتمام والكمال من انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد على الحكم المدني الديمقراطي المنتخب في تونس بكل مكوناته بما فيها البرلمان التونسي، وهو الانقلاب الذي يبدو أنه أطفأ نور الثورة العربية الوحيدة التي حققت نجاحا نسبيا من بين ثورات الربيع العربي الأخرى التي انتهت إلى دمار. ورغم أن سعيد لم يتحدر من المؤسسة العسكرية، فتقديري أن العسكر ليسوا بعيدين عن ما قام به، وإلا كيف يصمد سعيد أمام الكثير من فئات الشعب التونسي ومكوناته كل هذه الفترة؟
يبدو أن هناك لعنة إلهية على الشعوب العربية لناحية نجاح أي عملية تغيير ديمقراطي حقيقية فعلا في أي من دوله.
العسكر في المنطقة العربية، كما في العديد من دول العالم الثالث، هم نقمة على الشعوب وهم الذين عادة من يقومون بالانقلابات في هذه المنطقة، وعادة ما يقومون بها تحت شعارات ومصطلحات وعبارات معلبة، خشبية لم يعد لها أي معنى – مثل "الثورة التصحيحية" و"حركة تصحيح المسار" و"الثورة الحقيقية"، وما إلى ذلك من كلام هراء هو لا أكثر من الضحك على الذقون. والمؤلم في الأمر أن هؤلاء العسكر يتحدرون من بين أبناء الشعب الذي يوفر لهم الأكل والشرب والتدريب والسلاح والسكن – وكل ذلك من عرق جبينه وكدحه وجوعه وفقره. تقديري أن كل دولة عربية تنفق على جيشها أكثر بكثير مما تنفقه على أي مكون آخر من مكونات حكوماتها من تعليم وصحة ومواصلات وشؤون اجتماعية وما إلى ذلك.
ومع ذلك فإن هؤلاء العسكر هم الذين ينفذون الانقلابات في هذه المنطقة، وهم الذين بالتالي يقتلون ويبطشون ويقمعون ويسجنون أبناء هذه الشعوب التي يُفترض أنهم، أي العسكر هم الذين ينبغي أن يحموا الوطن والمواطن ودستور هذا الوطن. في الديمقراطيات الليبرالية الغربية هذا هو دور الجيش فقط: حماية حدود الوطن وحرية المواطن وبقاء الدستور. وهم لا يجوز لهم أن يحموا قائد الدولة ولا حزبه السياسي ولا مجموعته ولا أيا من ذلك. وإلى أن تتغير هذه المعادلة، فلا أرى أبدا أي تغيير في هذه المنطقة يمكن أن يضعها على طريق بناء دول حداثية، ديمقراطية، ليبرالية تحترم الحقوق وتقوم بالواجبات للشعب تحت إمرة حكومة مدنية منتخبة يأتي بها الشعب لفترة محددة للقيام بذلك.
اللافت في انقلاب عبدالفتاح البرهان الأخير في السودان هو ردود الفعل الدولية والإقليمية الفورية عليه:
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبقية الدول الديقراطية الغربية دانته منذ اللحظة الأولى بل وبدأت دول من هذه المجموعة – مثل الولايات المتحدة إعادة فرض عقوبات عليه مثل تجميد مساعدات للسودان بقيمة 700 مليون دولار وتوجيه التعليمات للبنك الدولي بالتوقف عن أي تعاون إضافي مع نظام العسكر إلى أن يعود إلى طريق الانتقال الديمقراطي.
الصين وروسيا – اللتان تعتبران لدى البعض في هذه المنطقة أنموذجا يحتذي – رفضتا تسمية ما حدث بالانقلاب، كما رفضتا التوافق مع بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي ما حال دون تمكن المجلس من إصدار بيان قوي يحظى بالإجماع ضد الانقلاب والانقلابيين، وهو ما كان يمكن لأن يكون له تأثير قوي على عسكر السودان.
الاتحاد الإفريقي لم يستغرقه أكثر من 24 ساعة لإعلان ما حدث في السودان انقلابا وتعليق عضوية السودان في مجلس الاتحاد. شكرا للأفارقة!
الدول العربية في غالبها لم تعلق على تطورات السودان، بل إن بعضها علق بطريقة يفهم منها "تفهم" ما حدث وحث "الجميع على ضبط النفس"!! لم أتوقع موقفا مغايرا.
إسرائيل هي الدولة الإقليمية التي يجب إيلاء اهتمام كبير بموقفها مما حدث في السودان. فتل أبيب لم تصدر حتى كتابة هذا المقال أي موقف من الانقلاب. جدير بالذكر طبعا أن السودان كان الدولة العربية الرابعة التي وافقت على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في الأشهر الأخيرة من عهد دونالد ترامب وذلك مقابل أن ترفع واشنطن اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومساعدتها على التخلص من مديونيتها التي فاقت الـ 50 مليار دولار.
وفي هذا السياق، تجب ملاحظة أن المكون العسكري في مجلس السيادة السوداني الذي حله البرهان في انقلابه يوم الإثنين كان متشجعا أكثر للتطبيع مع إسرائيل، وهو ما تعرفه إسرائيل تماما. وهذا يعني أن إسرائيل ستلعب دورا لعبت مثله تماما في انقلابات عربية سابقة، أي دعم الانقلابيين مقابل علاقات أوثق مع الدولة العبرية.
غير أن ذلك سيضع تل أبيب مباشرة في مواجهة واشنطن التي اعتبرت ما قام به البرهان صفعة شديدة لها. تذكروا أن انقلاب البرهان جاء بعد ساعات فقط من لقاء المبعوث الأميركي للقرن الإفريقي جيفري فلتمان مع قادة السودان العسكريين والمدنيين، بمن فيهم البرهان، يوم الأحد الذي سبق الانقلاب. وربما يفسر هذا الموقف الأميركي الذي لم يتأخر في رفض الانقلاب – وإن كانت واشنطن لم تصفه بالانقلاب لأسباب قانونية يضيق شرحها هنا – وبدء فرض عقوبات واضحة ومؤلمة ضد عسكر البرهان.
إسرائيل بتقديري ستتواصل مع البرهان وأعوانه في القريب العاجل – إن لم تكن قد فعلت ذلك أصلا – لتطمئنه بأنها ستحميه من غضبة إدارة بايدن والكونغرس وعقوباتها التي ربما ستعيد السودان إلى حال العزلة التي كان يعيشها السودان في أيام البشير مقابل أن يواصل العسكر السودانيون حلقات التطبيع مع إسرائيل. إسرائيل فعلت ذلك من قبل بنجاح في انقلابات عربية سابقة وتفوق نفوذها على الكونغرس حينئذ على نفوذ رئيس أميركي، وهو باراك أوباما.
فكيف سترد إدارة بايدن على هذه الأزمة؟ وكيف ستواجه الإدارة حكومة نفتالي بينيت الإسرائيلية التي تعاملها الإدارة بقفازات مخملية منذ وصولها إلى الحكم خوفا عليها من السقوط وعودة عدوها اللدود بنيامين نتنياهو إلى قمة الحكم في إسرائيل ثانية؟
مفيد الديك إعلامي أميركي عربي ودبلوماسي أميركي سابق.