فلننزعْ صفحات "الكتاب" الأولى

فلننزعْ صفحات "الكتاب" الأولى
الرابط المختصر

ماذا ستكون ردّة فعل الطلبة وكيف ستتجلّى استجابتهم، حين يطلب منهم المدرِّس أن يمزّقوا الصفحات الأولى من الكتاب المقرر الخاص بالشِّعر؟ صفحات المقدمة المتعاملة مع الشِّعر باعتباره مادة قابلة للتقنين، كأنما هو عِلْم! مقدمة مكرَّسَة كتبها أحد الأساتذة المرموقين من حاملي ألقاب التفخيم الأكاديمية؟ لا يتجاوز المدرِّس هذه المقدمة بعدم شرحها فحسب؛ بل يقوم بنزع أوراقها عن نسخته الخاصة ويمزقها نتفاً. لا يكتفي بهذا وسط ذهول الطلبة؛ إذ يتابع طالباً منهم أن يفعلوا مثله ليبدأ "الدرس" بعد ذلك!

بمثل هذا التصرف "الأخرق" شرع المدرِّس، في فيلم "مجتمع الشعراء الموتى" بتهجئة الشِّعر، والحياة معاً، بمرافقة طلابه، خارجاً على مألوف الأعراف السائدة في ما يتعلق بطبيعة علاقاتنا مع أشياء الحياة برمتها. كأنما، في مسلكه الصادم المقصود تماماً والصارخ في وضوح "غرابته"، إنما يُفصح عن صرخة احتجاج ورفض للموروث المتحجِّر الساري في كافة مناحي حياتنا اليومية، الذي نتشربه بعاديّة مستسلمة، ونتعاطى مع تجلياته كونها بديهيات لا تقبل النقض وتأبى التفكير وإعادة النظر والتقليب – بمعنى تفكيكها وفحصها، بمعنى ممارسة مشروعية نقدها.

حيال المشهد الموصوف الذي صوره الفيلم، والدهشة المرتبكة التي عجنت وجوه الطلبة لحظة استوعبوا جدية طَلَب المدرِّس الجديد، القادم كـ"بديل عن غائب"، فإننا نكون قد دخلنا على الفور بوابة الأسئلة الكبرى: الأسئلة المُغْفَلَة المسكوت عنها: أسئلة الوجود الراهن للكائن الإنساني وماهية علاقته الرابطة له مع الكون والمجتمع، ومكانته داخل هذا الكون والمجتمع. فمن خلال الاستغراق الحياتي والتأملي، والمضي في سَبْر بواطن السؤال (سؤال الوجود)، تتدرج خطوات المعرفة على شكل إفصاح يقول بأنْ علينا أن نبدأ من جديد. أن نولد من جديد على ضوء حقيقة أنَّ جوهر ما يربطنا بالوجود لم يكشف عن ماهيته بعد؛ إذ جميع "الإجابات" التي راكمتها أجيال وأجيال ليست أكثر من مجموعة "اقتراحات واجتراحات" بعيدة عن الصواب المطلق، بقدر ما هي، فقط، قريبة من قناعات أصحابها.

وهذه، بالطبع، لا تكفي لسدّ جوع سؤال المعرفة المستريحة المريحة لطارح السؤال.

نحن، إذن، في منطقة النسبي القابل للخطأ، وسنبقى كذلك.

ليس ثمّة كلمة فَصْل نهائية في هذه الماهية. وإذا كان من بداية أولى تستحق أن نتعارف عليها ونتوافق من غير خِلاف أو جِدال؛ فإنها تتجلّى في حُرية الكائن في تشكيل سؤاله على هيئته وغِراره – أي: وفقاً لطبيعته الخاصة الباحثة بأدوات تجربته الشخصية هو.. لا شخصية سواه. ففي النهاية (كما في البداية) لن يبقى داخل دائرة المواجهة سوى هذا الكائن الفرد، الصغير، المؤقت والزائل، بالمقابل من هذا الكون الهائل الأزليّ الأبديّ.

"علينا أن ننظر إلى الأشياء من حولنا وكأننا نراها لأوّل مرّة.

علينا أن نكتشف الأشياء من خلال خبراتنا الصغيرة المتراكمة، وبذلك نكتسب معارفنا شيئاً فشيئاً.

علينا أـن نحكم على الأشياء ونمنحها قيمتها بوحيٍ من هذه الخبرات، وليس تحت ضغوط وأثقال الموروث الذي بات كالبديهيات والدروس التي لا تقبل المناقشة، والمحاججة، والنقد.. فالنقض."

.. هذا بعض مما قاله المدرِّس لطلابه في فيلم "مجتمع الشعراء الموتى"، وبعض مما أقوله أنا على لسان المدرِّس، رغبتُ أن يقوله هو، أو يقول ما يشبهه ليقترب مما أتوق للإفصاح عنه والنُطق به.

أن نخلع عنا كل المعارف المتصفة بالإطلاق هي خطوة إدراكنا لجوهر بشريتنا العاقلة المتعقلة– العالقة في فِخاخ إجابات الأسلاف.ولعلّ الشِّعر يمثِّل أحد وجوه خلاصة هذه البشريّة في علاقتها مع الوجود عبر الكلمات الباحثة عن معنى ممسوك. فكيف، والحال هذا، يتجرأ المتعالمون، بشتّى صنوفهم وألوانهم وخطاباتهم، على تأطير هذا البحث غير المنقطع والمسكون بالقلق بمجموعة نقاط وبنود منتهية حاسمة، كأنما هي تلخيص لما هو غير قابل للتلخيص على الإطلاق، أصلاً!

لا بُدَّ من نزع تلك الصفحات الأولى في بداية "الكتاب" وتمزيقها، إذن، مثلما فعل المدرِّس.

من جديد، نشرع بالسَبْر بحثاً عن "شيء من إجابة" وقد تسلحنا بخبراتنا الشخصية لا خبرات سوانا، أولئك المنتفخين بوهم القبض على "الحقائق"! إذا فعلنا هذا؛ يصير لليومي العابر وجهه المختلف، فلا يبقى عاديّاً. ويصبح للكلمات وقعها الآخر المتناغم مع الحياة المُعاشة، فلا تُصاب باليباس والبرودة والحياد ومذاق القَشّ. بعدها، نتحصل على حِصَّة لنا (وإنْ صغيرة) من التمتع بجمال العابر المُهْمَل الذي يمرّ بنا سريعاً ولا يعود.

بقدر ما نُحْسِن صياغة سؤالنا يكون اقتراح الإجابة هو نفسه اقتراحنا لماهيّة أنفسنا.

هكذا نبقى نحن على هيئة خبراتنا، كما نحن حقاً، وكذلك الأمر بالنسبة لذاك العابر/ شبه الجواب/ المتقلقل العالق بين العقل والقلب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة أولى: جدير بالذكر أنَّ مصير المدرِّس كان الطرد من "المؤسسة" التعليمية/ التربوية ذات التقاليد.

ملاحظة ثانية: كُتب هذا المقال قبل أكثر من 12 سنة، وها أنشره من جديد، بصياغة مختلفة نوعاً ما؛ إذ الحال الآن هو الحال وقتذاك، والله لا يغيِّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.

 

 

·        إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

 

أضف تعليقك