فساد من الدرجة الثانية
تبدو تهمة “استثمار الوظيفة العامة وإساءة استعمال السلطة”، واضحة، لكنها في نفس الوقت فضفاضة وتحمل تأويلات ليس لها آخر،
بدءا بشمول مسؤولين سابقين دفعوا بتعديلات قوانين وتشريعات لغايات خدمة مقربين أو خدمة أنفسهم، مرورا بوزراء حملوا حقائب ولا يملكون سوى آلاف معدودة ليغادروا مواقعهم بملايين وأراضي وقصور، وليس أخيرا.. رؤساء حكومات متعاقبة أقالوا وعينوا اعتمادا على رغبات شخصية.
لم يعد الفساد منظومة تعمل في الظلام تشمل تنفيعات وعطاءات وحتى هبات من نوع ثقيل؛ فعلى مدار السنوات القليلة الماضية تطورت تلك المنظومة ليكون لاعبوها الرئيسيون مسؤولين رفيعي المستوى جاهروا باتجاه إقرار قوانين تخدم شركات هم المساهمون الرئيسيون فيها.
ما شهدناه خلال الحكومات المتعاقبة -وحتى الحالية- من إحالة أعضاء مجالس إدارات في شركات ورؤساء بلديات وموظفين صغار في وزارات مختلفة للقضاء والمساءلة -مع التذكير بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته- ليس إلا فسادا من الدرجة الثانية.. إن لم يكن من الثالثة.
ومنذ أكثر من عشر سنوات خلت لم تكن قضايا الفساد معنية بوزراء في الحكومات المتعاقبة ولم تطل مدراء من الدرجة الأولى، إلا في قضايا نادرة شابها الغموض وترفعت عنها الشفافية.
اليوم نسمع أن المسؤول الفلاني يملك قصرا قيمته تتجاوز الملايين رغم أن خدمته في القطاع العام لم تتعدّ السنتين، وآخر حسابه في البنك عند سقف المئة مليون دينار، بينما هو أكاديمي أعلى منصب شغله قبل الوزارة كان براتب لم يتجاوز الألف دينار.
المتتبع للمساهمين في البنوك المحلية يفاجأ بأن حصص ملكية ليست بالقليلة لوزراء سابقين ورؤساء حكومات ساهموا بشكل كبير في سن تشريعات، غذت أرباح تلك البنوك من خلال إعفاءات ضريبية وعلى حساب الإقراض للأشخاص والشركات، ومن بعدهم -كما كانوا يجاهرون- يأتي الطوفان.
ومن يدقق في المراسلات ما بين وزارة وأخرى من جهة ورئاسة الوزراء من جهة أخرى، يصطدم بمدى التجاهل الحاصل من قبل مسؤولين تجاه إنذارات وتحذيرات موجهة من مكافحة الفساد وديوان المحاسبة، أو حتى من قبل موظفين صغار.
صحيح أن الحكومة الحالية بدأت يومها الأول بالتركيز على مكافحة الفساد وفتحت ملفات عديدة؛ لكن المطلوب معالجات جذرية وبكل حزم تجاه من أفسدوا في السابق وساهموا بآفات اجتماعية لم نكن نشهدها في مجتمعنا وبات اسمها يردد كل يوم ومنها ما يعرف بـ “العنف الاجتماعي”. قضية مصفاة البترول الممنوعة من الصرف لدى الإعلام -ونكرر أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته– شائكة لدرجة أنه لا يمكن إدراجها في إطار قضايا الدرجة الأولى..
من هنا يمكن القول إن مكافحة الفساد لا تزال بداية يمكن وصفها بـ “المحمومة”، لكن الاستمرار فيها يعتمد بالدرجة الأولى على جدية الحكومة في هذا المجال من جهة، ومدى النفوذ الذي بسطته ثلة سابقة في مؤسسات الدولة وتفريعات القطاع العام من جهة أخرى، والأيام اللاحقة ستثبت ما إذا كانت مكافحة الفساد مجرد استعراض مؤقت أم أن نهجها ستعتمده دوماً كل الحكومات.