فراغات برسم التعبئة
يقال إنّ الطبيعة تكره الخواء وترفضه، ولذلك فإنها تفرض تعبئته بقوانينها الخاصّة.
على سبيل المثال: الألوان تملأ المساحات الصحراوية الشاسعة الخالية من دبيب الحياة (في الظاهر منها)، فتجعل من الأديم لوناً أصفر تتناثر فوقه شعث نباتات نحيلة ليقوما بمعاكسة زرقة السماء في الأعلى، فيتحوّل المشهد بتدرجاته مع مرور ساعات النهار إلى ما يقارب لحناً يتصاعد أو يتخافت بصمت! لحناً لا يُسْمع بالحاسة المباشرة، لكنه "مخلوق يُسْتَدَل عليه"، وما علينا سوى تفعيل المخيلة! عندها؛ يتأتى لنا البرهنة على امتلاء المكان الذي بدا خاوياً، وعلى أنّ الفراغ لا يتماشى مع حيوية الحياة.
أسوق هذا المثال لأقول بأنّ الحياة بطبيعتها الحيوية تتطلّب الامتلاءبتفعيل التناقضات الكامنة فيها لإيجاد معادلة توازنها، والنطق بالاختلافات من أجل العثور على حلول لها، والكشف عن الفروقات لاجتراح صيغة التعادُل والانسجام بينها.
ما تقوم به الطبيعة قد يماثل ما تقوم به الدولة، أو بالأصحّ: ما ينبغي على الدولة أن تتولاه لكي تستحق أن تكون دولة حاوية للتناقضات، والاختلافات، والفروقات في مجتمعها. حاوية لها لا لتُبقيها طي الكتمان وكأنها سر من أسرارها، أو تتستر عليها بوصفها عيوباً وطنية؛ لتخرج من ثم على العالم بكذبة: كلّ شيء في دولتنا على ما يرام! إنّ دولة كهذه، إذا مارست هذه السياسة/ اللاسياسة، تكون كمن يُخفي غبار منزله تحت السجادة موهماً بنظافته، بدلاً من إزاحته! أو كمثل مَن يتعامى عن أعراض انسداد شرايين القلب بإنكارها، واصفاً إيّاها بأنها مجرد "لفحة هواء" وتزول بدواء مُسَكِّن!
تكون الدولة، بأفعال كهذه، قد تركت "مساحات الفراغ" على فراغها، وإنْ قامت بشيء؛ فترقيعٌ وتأجيلٌ في أحسن الأحوال. وما تلك المساحات الفارغة سوى مجموع الأسئلة العالقة بلا إجابات أو حلول. الأسئلة/ المشكلات بتعددها، التي لا معنى لأيّ دولة إذا لم تعمل على إيجاد حلولٍ لها.
ثمّة تناقضات، واختلافات، واختلالات، وفروقات داخل مجتمعنا لا مجال لإنكار وجودها (أسوة بكافة المجتمعات)، وفي الوقت نفسه لا مجال لمعالجتها إلّا بإفساح المجال لمؤسسات تعبّر عنها: لجهاتٍ تمثلّ أطرافها حقاً، فتخلق حواراً مفتوحاً حولها للوصول إلى حالات تتوازن من خلالها الفئات الاجتماعية كافةً.
إذن: نحن بصدد الحديث عن أحزاب حقيقية.. لا مسميات لِما يشبه الدكاكين، أو صالونات سياسية. ونقابات فعّالة تمثّل مصالح منتسبيها وتدافع عنها وعنهم.. لا مجرد هياكل شكلية بموظفين بلا تأثير في الواقع. وهيئات أهلية مختلفة تأخذ "الصالح الخاص والعام" بعيداً عن الاصطفافات السياسية الموسمية، والحسابات الشخصية. إذن؛ نحن بصدد "واجبات" تقع على عاتق الدولة إعادة النظر في كلّ ما من شأنه إعاقة تشكيل تلك الأحزاب، والنقابات، والهيئات.
باختصار: نحن حيال السؤال عن توفير حياة سياسية، حقيقية وفاعلة، لا يمكن أن تتجلّى إلّا في أحزاب ونقابات - ناهيك عن تمثيلات شرائح اجتماعية مهنيةمعينة ضمن مؤسسات المجتمع المدني (كالصحافة والإعلام) تعمل بمعزل عن تدخلات الدولة وتوجيهاتها.
الدولة، في البُعد الاجتماعي الشامل، فضاءٌ مفتوح ينبغي تعبئته بمؤسسات مرتبطة بمصالح فئات اجتماعية عريضة.مؤسسات تتحرك وفقاً لهدف تحقيقها بحوارات دائمة مع أجهزة الدولة (فهي جسور التواصل مع صُنّاع القرار)، وتعلن احتجاجها ورفضهالقوانين تُسَنّ وتشريعات تُرسم تتناقض وتلك المصالح. مصالح، حين يُنظر إليها مجتمعة وقد استوت على نار الحوارات الهادئة، هي تكثيف لاحتياجات المجتمع ككلّ وطموحاته: لمشروع "الوطن" الذي يتمثّل في دولة تخطط لبنائه والدفاع عنه.
أن يُفرغ هذا الفضاء الاجتماعي من كلّ ما سبق، يعني إفساح المجال لقوى تعمل على تعبئته لصالح "رؤاها" الخاصة، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق تناقضات زائفة، وتأزيمات مفبركة بين تشكيلات المجتمع. المجتمع الذي تُغيَّب عنه لوازم التوازن، وتُطمس فيه حقائق الأمور.. فيفقد البوصلة، ويتوه في عماء فراغ تم تعبئته بالضلالات!
* * *
أسأل: أين الدولة التي تستعيد البوصلة، فتستعيد دورها؟
أسأل: هل امتلكت الدولة قرارها بإعادة النظر في ماضيها ومراجعته؟
أسأل: هل اكتشفت الدولة أخطاءها التي ندفع أثمانها "تخبطاً حيوياً".. أو "سكوناً مفخخاً"؟
أم هي الدولة التي لم تعترف، حتى الآن، بوجود ما ينبغي إعادة النظر فيه، فلا تعود لتساؤلاتنا موجبات طرحها؟
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.