فارق حيوي
باغتني طفلي بملاحظة أدهشتني. قال لي: هل لاحظت أن حديقة الحيوانات ليست حديقة فعلاً! إنها في الواقع نوع من المتاحف. يضعون فيه الحيوانات لنتفرج عليها، ويضعون لنا لوحة على كل قفص فيه معلومات عن الحيوان الذي فيه.
لم تفاجئني ملاحظة طفلي نفسها، على ما فيها من عناصر مدهشة، لكن الملاحظة بحد ذاتها جعلتني أدرك فوراً من أنا، ومن هم زملائي في ساحات الثقافة والفن والإعلام، ورأيت على الفور القفص الذي أتحرك فيه، والأقفاص التي تضم بقية الزملاء..
وفطنت أن كل ما كنت أفعله طوال الأربع سنوات الماضية من نزوع إلى «دج» الكلام بصراحة، لم يكن شيئاً سوى محاولة التحرر من قفص "حديقة الحيوانات"، وأدرك اليوم مع ملاحظة طفلي أنني لست منشاراً لأقطع حدود قفصي، وأن كل ما فعلته لم يكن سوى خبط على قضبان القفص، لم يحررني ولم يجعلني أخرج من المساحة التي حددت لي.
وذلك قادني أيضاً إلى تحديد طبيعة قفصي، فتذكرت المدبجات التي تدعي «الماركسية» في الأردن، وعرّفت السلطة بأنها دولة، ونظرتُ إلى طبقة الفساد الأردنية بوصف رموزها «رجال دولة»، وشرعنت ضبط الإيقاع على وقع السياسات الرسمية والمشاركة فيها باعتبار ذلك مساهمة في «الحفاظ على الدولة»، بالخلطة الرائعة التي تجمع اليمين مع اليسار، وتضع المفسدين في صدارة النضال الوطني!
وفطنت أيضاً أن الأمل السوفيتي، الذي عشت بعضاً منه، كان يقودني إلى التشكك بكل ما أرى، ويدفعني مثل ريح عاتية باتجاه رفض كل ما هو مطروح، والتشكك بكل ما يقال باسم «الوطنية» و«الماركسية» و«اليسار» والتوجهات، التي تتستر بالأفكار المكررة حول مفاهيم عامة لا تدخل البحر، وتبقى على شاطئ الالتباس، والحديث الممجوج عن مواجهة الظلامية والفكر المتطرف.
وأسعدني الحظ اليوم، فشاهدت فيلماً تلفزيونياً على محطة روسية عن الموسيقار السوفيتي العبقري أندريه بتروف، الذي هو نتاج خالص للثقافة السوفيتية، ويعد واحداً من أفضل خمسة كتبوا موسيقى للسينما، إن لم يكن، وفق تقييمات أميركية، أفضلهم على الاطلاق، فتذكرت أن البؤس في البنية التحتية للثقافة والفساد العميم والتزييف ليس أمراً حتمياً، كما أن تعالي الدولة (السياسيين) على الثقافة نكتة سخيفة مضطرين لسماعها، إلى وقت!
وتذكرت النكتة السمجة حول الأنظمة البعثية، التي كان يرددها الكاتب صالح القلاب كثيراً قبيل الغزو الأميركي للعراق، التي تقول إن المواطن في هذه الأنظمة لا يفتح فمه هناك إلا عند طبيب الأسنان؛ وعلي أن أُذكّر الجميع أن الأنظمة البعثية ليست فريدة في ذلك، بل أنها في موقع أخلاقي أفضل في العلاقة مع أفواه الناس، وفي التعامل مع الرأي وفي فهم حرية الكلمة؛ إذ أن هناك أنظمة ما تزال لا تسمح للمواطن فتح فمه حتى في «المرحاض»، ناهيك عن فتحه عند طبيب الأسنان.
وفي موضوع غير واضح الصلة، لابدّ لي من أن أشير إلى الفارق ما بين الاعتداد بالنفس وبقية القيم الإنسانية الإيجابية وبين الادعاء وما يماثله ويسنده من أعراض مرضية، بأن الفارق بين هذا وذاك يكمن الفرق بين أن تكون إنساناً أو مريضاً بعلة نفسية؛ وربما لهذا أتأخر بالنشر، ولا أتشجع في ربط كتاباتي بشخصي، لأنني أخشى دائماً أن لا يكون ما تنتجه كتابتي نصاً أدبياً، إنما وثيقة مرضية، مثل تلك الرسومات التي نشاهد، في الأفلام، مقيمي مراكز الصحة العقلية يرسمونها بناء على طلب أطبائهم.
ووجدت نفسي، أتذكر بامتنان كل أولئك الناس البسطاء، وأولئك الشباب الشجعان والأحرار بإرادتهم النزيهة وعقلهم الثابت الذي لا تهزه التحديات، ممن لفتتهم الشيوعية السوفيتية، الذين التفوا حولنا في وقت كان فيه المرور على بيتنا أشد جرماً من الدخول إلى السفارة الإسرائيلية اليوم، وأسهموا في تحويل معاناتنا مع السلطة الأردنية من مأساة عائلية إلى مأثرة وطنية. وأشعر ان هؤلاء بالذات شركاء أصلاء لي بأفضل وأغلى ما أملك، ولا يمكنني أن أتنازل عن العلاقة المباشرة معهم، وهي علاقة أكبر من أن تدخل فيها زوجة أو ولد!
وهذا يذكرني أن «الإخوان المسلمين» رجموا بيت العائلة نفسه الوارد ذكره، بالحجارة أكثر مما رموا على السفارة الأميركية، ناهيك عن الإسرائيلية، طوال تاريخ وجود الحركة في العالم العربي، وهو وهو ما يدعوني للقول إن بيت العائلة في "مليح" أثر تاريخي مهم، يفسر شيئا مما جرى ويجري في هذا العالم العربي.
أحاول أن أجد رابطاً بين كل ما قلته ولا أجد، إلا أن ربما يكون هنالك فارق بين «حديقة» و«متحف» الحيوانات،، إن كان الفارق ما بين الـ«حديقة» والـ«متحف» يغني عن الفارق بين الإنسان والحيوان!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.