غزوة التجميد

غزوة التجميد

الرد الرسمي العربي على التطرف والتشدد تلقف في أعقاب «غزوة نيويورك» صيغة «الوسطية»، وتمسك بها؛ وهذا يمثل لحظة غريبة يفترض أن تستوقفنا، فالأنظمة المعنية هي في واقع الأمر حليفة الولايات المتحدة، ويفترض أن لا علاقة لها بالإسلام المتشدد أو سواه. بمعنى أنها في منأى عن الغضبة الأميركية تجاه الإسلام، بل شريكة فيها.

 

اللحظة الغريبة الثانية تتمثل في اختيار «الوسطية» بالذات، التي تعني أول ما تعني أن هناك إسلاماً متشدداً غلوائياً، وآخر مسالم؛ وفي هذا بطبيعة الحال إقرار بأن الإسلام ليس واحداً، ولكنه متعدد بتعدد معتنقيه وحملته، وظروفهم، وبيئاتهم، وخلفياتهم الإجتماعية؛ ما يعني أن الإنسان يصنع إسلامه، وليس العكس. أي لا يصنع الإسلام إنسانه. وهذا يضرب بفكرة الإسلام الجامع المانع، الصالح لكل زمان ومكان، الذي يُقوم إنسانه ويغيره.

 

وهنا، تساؤل ثالث: لماذا تم اللجوء إلى استجداء التوافقية، وتلقف «الوسطية»؟ أي لماذا البحث عن نقطة وسط في المسافة بين الإسلام المتشدد الغلوائي والآخر المسالم؟ وألم يكن من المنطقي اختيار الإسلام المسالم، طالما كان موجوداً!؟ إذ أن البحث عن نقطة وسط مع الغلواء والتطرف ليست بالفكرة القويمة، التي يمكن أن تمثل حلاً أو سبيلاً وسطاً، فما خالطه التطرف هو، بلا شك، تطرف!

 

ويبدو هنا، في هذا السياق، توحي المؤتمرات العديدة، والتدبيجات الكثيرة حول «الوسطية»، تحاول التعريف بها، وتقديمها، كأنما «الوسطية» المنشودة هي سطر في بحر من الغلواء لا يسهل العثور عليها، بدليل أنها تستعصي على التعريف الجامع المانع، وتتطلب الكثير من الجهد العام والخاص لمحاولة تحديدها.

 

في الواقع، جاء الاستثمار العربي الرسمي في الترويج لـ«الوسطية»، لكونها الحل السحري الذي يمنح العامة إسلاماً منسجماً مع إسلام السلطة الرسمي؛ ومن هنا، فإن صيغة «الوسطية» المخاتلة لا تعني، كما هو متوقع، الحل التوافقي الوسطي بين إسلام متطرف وآخر مسالم للغاية، بل ما بين إسلام رسمي وآخر شعبوي.

 

ويتضح من ذلك، أن أغلب الأنظمة العربية كانت، وما زالت، تستثمر في الدين بطريقة متعسفة وبشعة في تأكيد سلطتها على العامة، وتوظف لذلك جيوشاً من «رجال الدين». كما يتضح من الفزع العربي الذي قاد الأنظمة الرسمية إلى اجتراح «الوسطية» أن الإسلام الرسمي لا يختلف عن الإسلام المتشدد كثيراً، من حيث منطقة ومعتقداته وإيمانياته، ولهذا فإن الغضبة الأميركية على إثر «غزوة نيويورك» لم تكن بعيدة عن استهداف هذا النوع من «الإسلام» واستهدافه.

 

ولليوم، هناك توظيف واستغلال رسمي للإسلام رغم إن محاولات «تنقية» الإسلام الرسمي من الآخر المتشدد لا تزال متعثرة، وتؤكد أن التطرف والتشدد هو من ناحية واحد من منتجات الاستغلال الرسمي للدين. وهو كذلك، من ناحية أخرى، يعكس عدم انسجام القواعد الاجتماعية العريضة مع دولها وأنظمتها الحاكمة.

 

ولن يحتاج المرء إلى دليل على ذلك، سوى المقارنة بين حجم الاستثمار العربي الرسمي بالدين و«رجالاته»، بكافة أشكاله، ومثيله بالثقافة والفنون؛ وهذه المقارنة تحيلنا إلى الاستخفاف الذي يتم التعامل فيه مع الثقافة وأهلها، باعتبارها ترفاً زائداً، حتى في هذه الأيام التي ترفع فيه كل هذه الدول رايات مكافحة التطرف والتشدد والإرهاب.

 

لقد كتب الروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، مرة، قائلاً: «لاشيء يحمي الإنسان من الغباء والكبرياء والتعصب والتمييز الديني والسياسي والقومي أفضل من قراءة الأدب». وبتوظيف عبقري لهذه العبارة في محاربة الإرهاب والتطرف والتشدد، اندفعنا في الأردن إلى «الدعوة» إلى «مذهب الوسطية»، الذي لا يعرف أحد ما هو، بينما رفعنا في المقابل الغطاء عن الثقافة والمبدعين والأدباء، الذين ينتجون أفضل ما يحمي الإنسان من هذه الآفات.

 

ربما، يمكننا أن نثمن في هذا السياق غزوة وزيرة الثقافة، المتمثلة بقرار تجميد مشروع التفرغ الإبداعي!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك