على نحو ملحوظ
أمضى صديقنا، رسامنا المفضل، نحو ثلاث سنوات يعمل على اللوحة ذاتها؛ وكانت تصور امرأة في وضعية جلوس تأملي مسترخٍ، الوضعية ذاتها التي اختارها الفنان الروسي الشهير ألتمان لرسم الشاعرة الروسية الشهيرة أنّا أخماتوفا، بل وأقرب إلى تخطيطات عشيقها لوقت الفنان الإيطالي المبدع أماديو مودلياني الشهوانية، التي خلدتها في مجموعة من أكثر اللوحات ذيوعاً لها وفي الفن. وفي الأثناء، كان يجمعنا عنده كل بضعة أشهر في احتفال صاخب يقيمه احتفاء بانتهاء اللوحة، التي سرعان ما أدركنا أنها لن تنتهي أبداً. وكان في كل مرة، يكون قد استقر في علاقة مع امرأة جديدة، يأخذ الجسد في اللوحة تقاسيمها ووجهها، وتميل الألوان لتعكس شخصيتها.
وهكذا، عشنا مسيرة طويلة مع تلك اللوحة، تغيرت المرأة فيها من نحيلة سمراء، إلى ممتلئة شقراء، ثم إلى إيرلندية بشعر طويل متموج، تتدرج ألوانه من البني الفاتح حتى الأحمر الناري. وهكذا إلى أن وصلنا إلى خلاسية من كوبا بعواطف متأججة وحركة لا تهدأ، كأنما هي ترقص في عرس صاخب. وانتقلت ألوان اللوحة الطاغية، خلالها، من الأزرق العاصف، إلى الأخضر الفاتح الوديع، فالأحمر العارم، ثم الأصفر الفاقع، وهكذا.
وفي كل احتفال تالٍ بانتهاء اللوحة، كنا نلاحظ أننا، مجموعة الأصدقاء، وبيننا اثنتان من حبيبات صديقنا الرسام السابقات، اللواتي سكنّ في اللوحة لوقت، نصاب بـ«لوثة» عجيبة من الإعجاب الشديد، المليء بالانفعال، بالنسخة الجديدة؛ بينما الحبيبة الحالية، التي تحولت اللوحة لتجسيدها، كانت دائماً تبدي امتناناً عاطفياً بارداً، أقرب إلى المجاملة البروتوكولية، ثم تنسحب لتتأمل لوحات الرسام القديمة، التي أنجزها قبل أن يتورط بهذه اللوحة. وكانت تعود من تأملها بإعجاب عارم باللوحات القديمة، التي يصور عدد منها بعض شخصياتنا، نحن الأصدقاء القدماء، ومنهم أنا، في تناول يبرز التشوهات الخارجية والداخلية. أعني، العيوب الجسدية والعلل النفسية.
وكانت هذه مفارقة، عشناها أربع مرات على الأقل في العام الواحد. لذا، لم يكن من النادر أن تلوكها ألسنتنا، بالتحليل المازح أول الأمر، ثم الحائر تالياً، ثم الجاد في النهاية، إلى أن تحولت المفارقة إلى سؤال وجدنا أنفسنا نتداوله، ثم نطرحه على صديقنا الرسام، الذي اختار عفوياً الإجابة على تفصيل جزئي من السؤال. قال:
- رسمتكم بتشوهاتكم، لأنني أحبكم. أحب حقيقتكم.
وهنا، التفتت إليه الخلاسية الكوبية، حبيبته في ذلك الوقت، وسألت بتمهل، لكن بتشكك واتهام:
- وأنا..؟ ترسمني خالية من التشوهات والعيوب!
لم تقبل الخلاسية الكوبية كل الإجابات والتفسيرات التي قدمها صديقنا الرسام، وكانت تلح عليه بالسؤال كل وقت: «كم أحتاج من الكمال لأطمئن أنك لن تفقد اهتمامك بي!». وتالياً، دخلت علاقتهما في مرحلة من الشد العصبي، الذي تخللته مشاهد ميلودرامية عاصفة، قبل أن ينزل العقل عليهما، ليقولا بهدوء: لقد آن الأوان لوضع حد لعلاقتنا.
سأظل أنا أتساءل لسنوات، بيني وبين نفسي وأمام الجميع، بمن فيهم الخلاسية الكوبية، حول المفارقة البسيطة: كيف يغضب إنسان، وبالذات امرأة، من أن شريكه رسمه بشكل خالٍ من العيوب، أو قال عنه كلاماً يجمله. وكنت بالمقابل أصر على إضافة شق مقابل للسؤال حولنا نحن، مجموعة الأصدقاء القديمة: كان حرياً بنا نحن، لا الحبيبة الخلاسية، الاحتجاج. لقد قبلنا من دون أي تفكير قوله أنه رسمنا بتشوهاتنا لأنه يحبنا، بينما لم تقبل الخلاسية الكوبية تأكيده أنه رسمها كاملة بلا عيوب لأنه مغرم بها!
وشعرت، منذ حينه، أن ثمة خلل ما، وأن هذا الخلل يتعلق بنظرتنا نحن للأمور، لا بطريقة فهم الخلاسية الكوبية للواقع. وبعدها اكتشفت أنني، وبقية أصدقائي، كنا ما نزال بحاجة لتعلم شيء جديد عن الحقيقة المستحيلة العسيرة على القبول ومسارب الكذب الكثيرة، القريبة من النفس.
بعد سنوات، أدى حادث عرضي في غرفة صديقنا الرسام إلى إتلاف اللوحة تماماً؛ فأصيب باحباط شديد، قاده إلى التفكير بإنهاء دراسته ومشاريعه في امتهان الرسم. وكنا نجتمع حوله نشد من أزره، ونذكره أنه فنان ويمكنه في كل وقت أن يشد القماش على الخشب ويضع ألوانه، ويعيد رسم اللوحة من جديد. وكان يرد باصرار:
- لا أستطيع أن أبدأ من جديد. لقد كنت أبني رسماً على رسم!
ولفتني أنه حينما استعادر رشده، عاد يحاول رسم حبيبته الأولى، التي كانت قد أضحت واحدة من مجموعة الأصدقاء، وعاد مغرماً بها من جديد، يطلب قربها وعواطفها. ولكنها رفضت بإصرار لا يلين، رغم أنها لم تكن فقدت طوال السنوات الثلاث عواطفها نحوه. ما دعاني لسؤالها عن ذلك، فقالت على الفور:
- إنه لا يعرض عليّ حبه. إنه يريدني أرضية لإعادة رسم لوحته القديمة. لن أتحمل أن تطمسني مرة ثانية كل تلك الحبيبات التاليات، وأن تُغيِّب وجهي تلك الملامح الغريبة!
وبعد وقت، عاد صاحبنا الرسام يرسم لوحات أخرى على غرار لوحاته القديمة، يظهر فيها بشر، لاحظنا أن من بينهم الخلاسية الكوبية، بتشوهاتهم وعيوبهم الكبيرة، الخارجية والداخلية. وحينها أدركنا أنه تعافى من انتكاسته تماماَ. وكانت هذه مناسبة أن أعيد سؤاله حول المفارقة التي جعلتنا نقبل تبريره لرسمنا بتشوهاتنا، واحتجاج الخلاسية الكوبية على رسمه لها خالية من التشوهات، فنظر إليّ، وقال:
- أنت ذكي كفاية، ما يجعلني استغرب أن تطرح مثل هذا السؤال الساذج. كنت أتوقع أن تسألني عما هو هام فعلاً!
نظرت إليه مستفهماً، فأضاف:
- كان بوسعك، مثلاً، أن تسألني لماذا كنت أقع في غرام نساء طويلات القامة على نحو ملحوظ. هذا شيء هام ومحير!
وكان هذا، بنظري، آخر سؤال يمكن أن يطرحه أحد على إنسان قصير القامة «على نحو ملحوظ»، حتى ولو كان فناناً مبدعاً. لكنني لم أتوقف عند ذلك، بل انطلقت من عبارته لأتساءل، طوال سنوات، وإلى اليوم، عن نوع «قصر القامة» الذي كنت وما أزال أعاني منه وأصدقائي «على نحو ملحوظ»، وطبيعة «طول القامة» الذي اتصفت به الخلاسية الكوبية الحسناء!
· ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.