على قمة جبل
عدت إلى البيت متأخراً. فتحت الخزانة واخترت بيجامة لنوم سريع. وتراجعت عشر دقائق إلى الوراء واخترت فيلما على التلفاز يعرض «مآثر» رجال العصابات في احترام الخضار، وآيات من تقديرهم للورد. ثم استعرضت رفوفي من مسافة قصيرة، ووجدتني بفعل «حادثة النصف متر» ورغبتي في أن أسمع من جديد حكاية «المرأة التي لن، والرجل الذي لم»، وأستدعي موسى صبري مخفوراً، لأجبره أن يلعب، رغماً عنه، دور أبي الأدبي، طوال الليل..
واخترت حلماً هادئاً يتيح لي، ساعات النوم الأخيرة في وجه الصبح، أن أحقق مع موسى صبري، وأستجوبه بمعونة ضباطي المدربين على استنطاق كل العناصر المشبوهة التي تقحم نفسها في حياتنا، ونمت مطمئناً.
ولم أتوقع أن أجد نفسي في الوقف الخطر الذي وجدت نفسي فيه. وجدت نفسي على قمة جبل تحلق فوقه الطائرات منخفضة، إلى درجة ترغمني على التفكير بحماية رأسي، والخوف على رقبتي أن تنقصم. وهذا شيء اضطرني أن أحبو على قمة الجبل محاولاً أن أجد لنفسي مخرجاً، وطريقاً آمناً نحو الأسفل؛ لكني وجدت على السفح الأول أمم تتقاتل، وعلى السفح الثاني أشخاصاً يتخاصمون بحدة، وعلى الثالث كان الجفاء العائلي يغلق كل إمكانية للمرور، بينما «فساد الأمكنة» يعيق أي تفكير بالنجاة.
وبعد أقل من سويعة وجدت نفسي مقيداً على كرسي في غرفة تحقيق، والمرحوم موسى صبري يحقق معي بمعونة ضباطه الأشرار المدربين على استنطاق كل العناصر المشبوهة التي اقتحمت عليه حياته، وفهمت أنه يتهمني بـ«حادثة النصف متر»، التي كنت أحسب أنها مجرد واقعة عاطفية عرضية..
بالطبع، اتضح أنها جريمة قتل منظمة، راح ضحيتها عامل مصري اسمه جمال عبد الناصر!
ولم يكن لدي شيء أدافع به عن نفسي. فقد كانت كل الملابسات تتهمني، بينما الجريمة نفسها تلبسني براحة؛ ولم أستطع أن أفسر كيف مت في العام نفسه الذي قتل فيه ذلك العامل المصري المسكين، ولم يكن بوسعي إلا تقديم احتمالات بديلة، فأشرت بأصابع الاتهام إلى «المرأة التي لن، والرجل الذي لم»..
لا اعرف كيف نجحت في إثبات الاتهام. ولا أعرف لماذا وجدت نفسي أصفق لحظة إعدامهما شنقاً بتهمة قتل العامل المصري المسكين جمال عبد الناصر، الذي ربما قتله «السيد من حقل السبانخ». وبالتفكير «وجهاً لظهر» فكرت بأنني ربما أكون سادياً يحب «الغداء مع آلهة الصيد» «في الصحراء» و«في البحيرات»، وأن أقصى ما يذهب إليه عقلي هو التفكير جدياً بـ«مشروع قتل الجارة»..
وكان عليّ أن أكف عن التفكير وأنظر..
وحينما نظرت، وجدت أهم أديب عربي منذ المتنبي إلى اليوم، يبكي بينما يجمع دموعه في آنية نحاسية على شكل نصف دائرة، ثم غسل يديه بما تجمع فيها من دموع، وبعدها انصرف إلى كتابة قصيدة جديدة..
كان ذلك محيراً جداً، ولكني لم أجد الوقت للتفكير به، فقد برز موسى صبري أمامي فجأة يلومني ويخبرني أنني فوّتّ «الغداء مع آلهة الصيد»، وأن ليس بوسعي سوى أن أرتق «القميص». وكان يعنفني بتشكك، قائلاً: والله «لا أحد يعلم» أيهما تجيد أكثر: الرتق، أم التمزيق!
أما أنا فأيقنت حينما استيقظت، أن هذا كله شيء لا يحدث مع انسان إلا على قمة جبل!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.