على "غير" ما يرام
لم أعد أقرأ التعبير العربي التقليدي "كل شيء على خير ما يرام". هذا التعبير الذي نادراً ما خلت منه الكتابات القديمة بمختلف أنواعها ومواقع نشرها: في الكتب، والمجلات، والجرائد، وكذلك في التقارير التي تذاع عبر الإذاعات والمحطات التلفزيونية. كان هذا التعبير مألوفاً في تلك "الكتابات القديمة"، في زمنٍ صار ماضياً، ولدى كُتّاب وقُرّاء يتناقصون بسرعة قصوى. حتى النصوص المترجمة للعربية اختفى منها هذا التعبير، فهل باتَ "كل شيء" على غير ما يرام في كل العالم؟
أعتقد ذلك. ولكن: متى كانت كل الأشياء على ما يرام، بحسب أجدادنا الذين اعتادوا تذكيرنا بماضيهم الجميل، كلّما أجروا "جردة حساب" مقارِنة مع الحاضر الذي نتحرك فيه الآن؟ من وجهة نظري لم تكن الأشياء، كل الأشياء، على ما يرام في أيّ وقت، غير أنّ الفارق بين زمنين هو فارقٌ نِسبيّ أوّلاً، وفارقٌ كبير ثانياً. ومع أنّ النسبة الأعظم من سُكّان بلداننا "النامية" تتمثّل في الشباب، أيّ أننا مجتمعات شابّة كما يُقال؛ فإننا كثيراً ما نسمع تعبير: "هذا الزمن الأغبر"، والغريب أنّ مَن يتلفظون به هُم من فئة الشباب. الفئة التي لم تعش زمناً غير هذا الزمن! لماذا، وكيف؟
أعتقد أنّ الأمر متعلق بنسبة التسارع المجنون الذي يجعل فارقاً كبيراً جداً بين كل عشر سنوات. ليس في مجال التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل الكوني فقط؛ بل في التحولات الآخذة بالحفر داخل مجتمعاتنا. التحولات في المفاهيم حيث صرنا نتبنّى أطروحات لم تكن واردة من قبل، ونصطف ضمن معسكرات متقابلة متناحرة لم تخطر لنا على بال! ولإيضاح المعنى أجدني أضرب مثلين واقعيين، أجزم بأنّ عدداً هائلاً منا يعرف بهما مباشرةً، وعدداً آخر عرف عنهما.
* في اجتماعٍ ضم "نخبةً" من أساتذة أكاديميين كان الهدف الأساس منه مناقشة مسألة علمية بحتة، فوجئ الحضور بانحراف المتحدّث، الأعلى مرتبةً، نحو "عاصفة الحزم" على اليمن، لينتهي إلى الدعاء على الحوثيين ورميهم بتهمة الكفر! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ لاقى دُعاءه التأييد الفوري حسب الأصول: "آمين، آمين، آمين" من غالبية الأكاديميين! أما مَن وجد نفسه داخل لُغز، فسأل: لماذا؟ كانت الإجابة: ألْا تعرف؟ إنهم من الشيعة!
إذَن: جملة المسألة لا تتعدى مواصلة حرب عمرها أكثر من ألف وأربعمائة سنة. تُدفن ثم تُبعث لتدُفن فتُبعث، في متوالية جهنمية، من خلال إرثٍ تُسْجَن بين جدرانه أجيال وأجيال تتلاحق وتتقاتل وتخوض الحروب، بينما مجتمعاتها ترسف في الفقر المدقع، وعدوها الحقيقي الصهيوني تزداد شراهته ويرسِّخ احتلاله كأمرٍ واقع موجود ويوميّ.
المسألة، في حقيقتها – وكما يعرفها كل مَن يريد "المعرفة" حقاً – لا تتعدّى صراع القِوى الإقليمية مع بعضها بعضاً لتوسعة النفوذ، أو الحيلولة دونها، والمحافظة على مصالح الدول، أو الدفاع عنها، إلخ. أيّ أنّ "الكِبار الأثرياء" يديرون لعبة الموت من مواقعهم العُليا، بينما تُزهق أرواح الضعفاء الفقراء بعشرات الآلاف، وتُحرق الأرض وتُدمر بنى مدنها، ثم يأتي دور المحطّات الفضائية فتتخندق (بكتائبها من المتخصصين الأفذاذ في جميع الشؤون/ أمثال الأكاديميين المُشار إليهم قبل سطور)، لتبث في الناس داخل بيوتهم الأحقاد الطائفية، وتحقنهم بالفتنة القاتلة، تغطيةً لأنانية أصحاب المليارات الذين لا يشبعون– دولاً وأفراداً وعائلات.
* في زيارة ذات طابع عائليّ، علّق الزائر على مجموعة تحفيات صغيرة زجاجية موزعة فوق أحد الرفوف في الصالة: بطة، أرنب، برج الشيخ خليفة، سيارة من طراز قديم، طائر نورس، إلخ. نظر الزائر وعلّق مستنكراً، موجهاً الحديث لصاحب البيت: كيف تضع هذه الأشياء في بيتك! أخرجها! إنها أصنام! وكاد، من شدة "إيمانه"، أن يقوم من مقعده فيتناولها ويحطّمها! غير أنّ المضيف، وكان قد لاحظ ابنة الضيف نائمة إلى جوار أمها محتضنة لعبتها المفضلة "باربي"، سارع ليشير للطفلة ولعبتها الدمية: وماذا تسمّي الدمية؟ أهي صَنَم تُعْبَد؟
يتضمن المَثَل الثاني، كما الأول، تناقضاً صارخاً في المفاهيم، وبالتالي فإنهما معاً يؤكدان وجود أزمة عميقة داخل الشخصية العربية الآن. لم تعد المفاهيم تستقيم مع حقائق الحياة، ولم يعد مَن يحملها مؤهلاً لأن يبني حاضراً جميلاً يناسبه تعبير "كل شيء على خير ما يرام"، فما بالنا بمستقبل يبشِّر بالخير المأمول جرّاء حروب عَبَثية وانقسامات جاهلية بكافة معاني الكلمات!
ربما صار لنا أن نعرف لماذا اختفى التعبير إيّاه: كل شيء على خير ما يرام؛
إذ: كل شيء على غير ما يرام.
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.