على الطريق

الرابط المختصر

 

يبدو أنني سأصبح كاتباً. عرفت ذلك بالأمس. وبا للغرابة لا يبدو هذا أمراً مفرحاً، كما توقعت له أن يكون. فالشيء الذي كان قبل أكثر من ثلاثين عاماً حلماً عذباً، تحوّل منذ أكثر من عشر سنوات إلى قدر حاولت تجنبّه بكل وسيلة ممكنة، ولم أستطع.

ودأبت على تقريع نفسي طوال الوقت على هذا الفشل.

وهنا واحدة من بدايات القصة: قبل نحو ربع قرن، خرجت من مسكني بعدما وضعت في جيبي قصاصة ورق صغيرة، تحوطاً لأفكار طارئة يمكن أن ترد ببالي، ويمكن أن أحب تذكرها. بعد أقل من ساعة انهمر مطر غزير لم أر مثله قط. فاحتميت بمظلة مستخدمي الحافلات العامة، في محطة توقف الترام. وهناك حصل لي أمران:

الأول، توقفت عربة أمنية أمامي حيث أقف، معتدية على الرصيف، بحيث بت محشوراً في مظلة محطة الركاب لا أستطيع مغادرتها لو أردت، وانفتحت النافذة، وأطل منها رجل أمني برتبة وريبة تملأ عينيه، وأمرني بنبرة حادة وحازمة:

  • اسحب يديك من جيوبك. أظهرهما لي لأراهما!

أظهرتهما ممدوتين على جانبي، فبقي الرجل الأمني يحدق فيهما تارة، وأخرى يرمقني بتشكك. وبقي هكذا لبضعة ثوان، ثم مرّ بعدها أمامي موكب رئيس دولة كبرى زائر للعاصمة التي كنت أعيش فيها، محفوفاً بعربات المرافقين والحراسات ودراجات المراسم الرئاسية. وبمرور الموكب، تحدث الرجل الأمني في جهاز الإرسال، ثم أومأ إلي بطريقة لم أفهم منها شيئاً مؤكداً، ولكني قدرت أنه كان يقول معتذراً من دون شعور بالذنب: "لا عليك"، وأغلق النافذة، ثم انطلقت به العربة لتلتحق بالموكب..

هذا الرئيس، صاحب الموكب، لا يزال يحكم بلاده بأشخاص تلامذته. ويوماً ما سأتعثر به، فلا يلفت اهتمامي إلا بأنه رجل مسن لا تستطيع قدماه حمل جسده الثقيل.

في اللحظة التالية لمرور الموكب، ومغادرة العربة الأمنية، اكتشفت أن لي شريكة تحتمي بمظلة محطة الركاب مثلي. وعاشت الموقف كله، ولشدة خوفها من نبرة رجل الأمن الآمرة الحادة، ألقت بالمظلة التي كانت تحميها من المطر الذي كان يأتي بزاوية مائلة من الجهة المقابلة.

كانت جميلة وفاتنة، وبدت لي على إثر الموقف، وبتأثير المطر امرأة نهائية، ليس قبلها ولا بعدها غيرها.

قلت لها على الفور مهدئاً:

  • لا عليك. أنا المقصود. فيّ شيء ما يثير الشبهات..!

لم أعلم قبل ذلك اليوم أن الخوف قد يكون رابطاً حميماً قوياً. لذا، كان من المفاجئ لي أننا جلسنا تحت المظلة لساعة بعد ذلك نتحدث، ثم ترافقنا إلى مقهى قريب. وحينما بات يجب أن نفترق، كان عليّ أن أسألها عن رقم هاتفها. وكنت أحب ذلك، فسألتها.

لم تمانع، وكانت متشجعة لذكره لي. وانتظرتني ريثما أخرجت قصاصة الورق من جيبي والقلم. ولما فعلتُ، ذكرته لي ببطء. وشرعت بتدوينه، ولكن قبل أن ينزل القلم على الورق، خطر لي خاطر معاند: هذه القصاصة أحضرتها معي تحوطاً لخاطر مذهل يرد ببالي وأحب أن أتذكره لن أفسدها، بالتأكيد، بتسجيل رقم امرأة التقيتها على أمل أن يكتمل بيني وبينها حادث عاطفي..

لذا، لجأت إلى تحريك القلم فوق الورق دون أن ألامسه، مدعياً أنني أكتبه، ثم افترقنا وهي متأكدة أنني سجلت رقمها وأنني سأتصل في اليوم التالي كما اتفقنا. وكنت أنا نفسي متأكداً من ذلك، لأنني جعلتها تعيد ذكر رقم هاتفها إلى أن حفظته. ولكنني في اليوم التالي، لم أتذكره..

وكانت تلك خيبة أمل كبيرة قرعت نفسي عليها كثيراً..

المهم، أن تلك القصاصة بقيت معي بعد ذلك الوقت لوقت طويل، أنقلها من جيب سترة إلى أخرى. وفي الصيف من جيب قميص إلى آخر. وكلما هممت أن أدون عليها خاطراً ينتابني خاطر أن تلك القصاصة تستحق خاطراً أكثر أهمية..

مرت سنوات وأنا أحتفظ بالقصاصة في جيوبي، وأؤجل الكتابة عليها إلى حين يأتيني ذلك الخاطر المذهل. وخلال هذه السنوات كتبت الكثير، ونشرت الكثير من الكتابات والكتب، ولأنها كلّها لم تمر عبر خاطر استحق تدوينه على تلك القصاصة، لم اعتبر نفسي، في قرارة نفسي، كاتباً، أبداً.

وبقي الحال كذلك، إلى أن بدا لي أنني نجحت في التخلص من حلمي في أن أكون كاتباً، فأودعت تلك القصاصة فارغةً في محفوظاتي. ثم، لاحقاً، مع أول سفر، أودعت محفوظاتي عند ذويِّ، في بيت العائلة.

ومرت سنوات طويلة منذ ذلك الحين. سنوات انهار فيها العالم العربي برمته. ثم إذ بي فجأة أعثر اليوم، في جيب القميص الجديد الذي ارتديته هذا الصباح لأول مرة، على تلك القصاصة الفارغة.

أول ما أثاره في بالي ظهور تلك القصاصة القديمة العجيب وغير المفهوم هو أنني أخيراً سأصبح كاتباً. وكان هذا جيداً بالنسبة لي. ولكني لم ألبث أن وجدت نفسي بعد ثماني ساعات وجهاً لوجه مع تلك المرأة التي شاركتني في تلك العاصمة الوقوف تحت مظلة الركاب في محطة الترام..

تقدمت منها على الفور، في وسطها المزدحم، وسردت لها القصة التي حدثت معنا تحت تلك المظلة. وحينما وصلت عند رجل العربة الأمنية ومظلة المطر التي ألقتها من يدها لشدة رعبها، هتفت تتحدث عن رجل الأمن وكانت ما تزال تضحك بانفعال:

  • يا إلهي. لقد كان فظاً وغليظاً، وأثقل من هيلموت كول نفسه!

وحينما أنهيت لها الحكاية اغتمت، وجحظت عيناها، ثم تساءلت بتشكك:

  • من أبن تعرف كل تلك الأشياء عني. لم أخبر أحداً بذلك.

قلت لها:

  • أنا ذلك الفتى الغرّ الذي كان معك تحت مظلة الترام.

شحب وجهها بحيرة مجهدة، وقالت:

  • لا أذكر أن أحداً كان معي حينها..

وانصرفت يملؤها الشك.

ولم يكن لدي ما أقوله ليبدد خشية إنسان بات يعتقد أنه مراقب وملاحق. لذا، أقنعت نفسي أن أضع نقطة، وأن لا أذهب أبعد من ذلك. وأدركت في الوقت نفسه أن ليس من العبث أن تلك القصاصة ظهرت لأكتب شيئاً ما. لأكتب، ولأفهم أن غاية الكتّاب الأساسية من الكتابة هي أن يذكروا الناس بهم كلما نسوهم في محطة ما على الطريق..

ولأن العامّة تنسى، تبقى مأثرة الكتّاب أنهم يُذكِّرون!

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.