عقلٌ واحد

عقلٌ واحد
الرابط المختصر

لم يكن بوسع ذاكرتي، فور قراءتي للتعميم الذي أصدرته "مديرية المناهج" في تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش"، ووزعته على المؤسسات التربوية والتعليمية ضمن مناطق سيطرتها في سوريا، إلّا أن تستعيد تغييراً تعليمياً تربوياً أصابَ مناهجنا، في الأردن، أوائل سبعينيات القرن المنصرم. والخطير اللافت في المسألة أنّ ذاك التغيير صدر عن "مديرية المناهج" أيضاً في وزارة التربية والتعليم حين عُيَّن د. إسحق الفرحان وزيراً لها، وللأوقاف معاً، بين عامي 1970-1973، في حكومتي وصفي التل وأحمد اللوزي! وقتذاك، انشق د. الفرحان عن الحركة الإسلامية، علماً بأنه شغل من قبل مدير المديرية التي أعادت صياغة المناهج وفقاً لـ"رؤية" خاصّة، ولربما "حكيمة"، لكنه عاد بعد سنوات ليصبح أميناً عاماً لجبهة العمل الإسلامي.

القاسم المشترك بين التعميم "التربوي" الداعشي هذه الأيام، والسابق القديم المعمول به قبل أربعة عقود للدكتور الفرحان، هو احتكامهما لمبدأ المنع والحظر والتحريم لمواد كانت مقررة طوال سنوات وسنوات.

فالفلسفة، تحديداً، عند واضعي المناهج لدى داعش من المواد المضفورة بالمنع كونها تقع ضمن المحرمات، وكذلك الأمر عند واضعي مناهجنا أصحاب السَبَق، إضافةً لتحريمهم تدريس مادة "المنطق"! واستتباعاً للسياق الذي جرت فيه العملية التربوية وفقاً لما آلت إليه مناهجنا ولمدة أربعين سنة، فإنَّ النتيجة "المنطقية" لن تخرج سوى بما يؤشر إلى تعطيل العقل المتفكًّر المرتكز على المراجعة وإعادة النظر والبناء من جديد (الفلسفة)، وإقصاء آلية ربط النتائج بأسبابها ربطاً عقلياً عقلانياً واقعياً وحياتياً (المنطق)! حينها، وبعد تأملنا حالةَ تغييب-لا بل اجتثاث- هذين البُعدين في الشخصية الاجتماعية منذ الطفولة، وجبَ علينا أن لا نُفاجأ إذا ما تناسلت أجيالٌ من المتعصبين ذوي الاعتقاد بامتلاكهم "الحقيقة والحق"، الرافضين لأيّ اختلاف، والمترصدين له ولأصحابه حدّ تكفيرهم، فمحاربتهم، فقتالهم،فقتلهم و"قطع رؤوسهم" بالتالي. إنها نتيجة طبيعية؛ إذ جُردت هذه الأجيال من مَلَكات العقل الموهوبة لها من الله، ودُججت بذاكرة التلقين البَشَري الأصمّ واستيلاد الكراهية.

ها نحن اليوم إزاء مناهج ترسمها "داعش" تحرًّم الجانب الحواري العقلاني المتمثل في الفلسفة، كُنّا من زارعي بذورها الأولى وحاضنات أجِنَتِها، وإنها لمسألة تستحق وقفة مراجعة مسؤولةوعميقة، إذا ما أردنا وقف هذا الانهيار التربوي التعليمي: إذا ما أردنا بناء"وطن"المستقبل بـ"مواطن" غير محروم من تفعيل عقله أوّلاً: إذا ما أردنا الاحتكام لآلية التحليل والتركيب الذهنيين الحُرَّة لدى طلابنا، وليس لحاصل جمع وحشدأكبر قدر من المعلومات لحصد أعلى نسبة من العلامات!

أن نُحدثَ تغييراً في المناهج التربوية يعني أننا بصدد إحداث "تعديل" في التنشئة تُبنى، وفقاً لذلك، أُمةٌ تشرع بتكوين "صورة" عنها وعن العالم حيث تُرسم من خلالهاسياستها في كيفية تدبر شؤونها الداخلية، وعلاقاتها مع ذاتها، ومع العالم. وإننا، إذ نتمعَّن بهذا، لسوف نتيقن من خطورة عملية التعديل وحساسيتها على المدى البعيد، أكان ذلك في وعي صانع القرار أو على مَن تقع عليه نتائجه.

ففي حوار د. إسحق الفرحان مع أحمد منصور في برنامجه الشهير "بلا حدود" على قناة "الجزيرة"، بتاريخ 18/2/2004، بعنوان: "أثر تغيير المناهج على هوية الأُمة"،يقول: "إذا قُلنا المناهج فنعني مستقبل الأمة (...) الإنسان كرّمه الله سبحانه وتعالى بالعقل والعلم. استعمال العقل والعلم في حياته في إعمار الأرض (...) ولتكوين شخصياتهم المتكاملة وتكوين شخصية الأُمة والمجتمع ضمن ثقافتها وثوابتها."

اللافت في حديث د. الفرحان (المتخصص بالكيمياء والتربية) خلقه لمسافة بين كلمتي "العقل" و"العلم"، وكأنّ الواحدة ليست نتيجة للأخرى ملازمة لها متلازمة معها. كأنّ العلم منعزل في مختبراته، والعقل سابح في آفاقه. وربما من هذه المسافة التي افترضها، كان سهلاً عليه إخراج الفلسفة والمنطق من المناهج، مفضِّلاً الإبقاء على العلم كأحد خيارين! أما عن ثقافة شخصية الأمة وثوابتها؛ فلست متأكداً من ماهياتها لديه، ومدى رسوخها في مواقعها حقاً.

ما هو أكيد لديّ ولدى الجميع، أنّ مديرية المناهج في "داعش" ألغت، ضمن ما ألغت: التربية الوطنية والاجتماعية، والتاريخ، والتربية التشكيلية، وقضايا فلسفية واجتماعية ونفسية، والتربية الدينية الإسلامية والمسيحية. كما أوصت بعدم تدريس مفهوم الوطنية والقومية وإنما الانتماء للإسلام وأهله، واستبدال كلمة الوطن بالدولة الإسلامية، إلخ!

ما أردت الوصول إليه يتكثف بالتالي:

إنّ "العقل" الذي تصدر عنه تعليمات تقضي بإخراج الفلسفة والمنطق من مناهج تربية أجيالنا يبقى هوهو، بصرف النظر عن اسمه، وعنوانه، وتاريخ تلك التعليمات/ الفَرَمانات.

  • كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.